15 سبتمبر 2025
تسجيللن يخدع الانقلابيون أحدا عندما يؤكدون المرة تلو الأخرى أنهم في غنى عن الرعاية الأمريكية لهم، فالرعاية الأمريكية هي ترياق الأنظمة القمعية. ولذا لا داعي للتساؤل حول موقف الانقلابيين من واشنطن، فالسؤال الحقيقي يتعلق بطبيعة موقف الولايات المتحدة منهم، ومن الانقلاب الذي نفذوه، والذي ترفض واشنطن حتى اللحظة أن تدعوه انقلاباً! الاتجاه الغالب على التحليلات الغربية يتوقع أن إدارة أوباما سوف تقر بالأمر الواقع في نهاية الأمر، على اعتبار أن قادة الانقلاب من العسكريين هم حلفاء طبيعيون لأمريكا، فقد تدرب معظمهم في أكاديميات أمريكية، كما أنهم متحالفون مع النخبة الليبرالية الصديقة لواشنطن، والأهم أنهم يخوضون حربا من النوعية التي يفضلها الأمريكيون ضد ما يسمونه بالـ"الإسلام الراديكالي"، الذي يهدد مصالح الغرب (كما يدعون) ويهدد إسرائيل. ويحذر أنصار هذا الرأي من أن معارضة الانقلابيين أو إغضابهم يمكن أن تؤدي بمصر إلى نفس مصير إيران، مع ما في ذلك من آثار كارثية على المصالح الأمريكية. وحتى هذا اللحظة، يبدو أن هذا السيناريو يمثل الموقف الفعلي للإدارة الأمريكية، فعدم تعاطيها بحسم مع الانقلابيين، ورفضها أن تسمي ما قاموا به انقلابا، يحمل إشارة ضمنية على قبولها بما يجري. المشكلة هنا أن تبني سيناريو الرهان على الانقلابيين يعني أن الأمريكيين لا يتعلمون من الماضي ويعيدون نفس أخطائه. فقد اختبروا هذا السيناريو عدة مرات على مدار النصف الثاني من القرن الفائت، وثبت لهم فشله، وتوج هذا الفشل بأحداث 11 سبتمبر. فقبل هذا التاريخ دعمت واشنطن الأنظمة المستبدة بكل قوة، ولم تبخل عليهم بالمساعدات العسكرية أو النقدية. أما قادة هذه الأنظمة فاستخدموا المساعدات الأمريكية لقمع معارضيهم ولتثبيت أركان حكمهم، بل إنهم لم يترددوا في المتاجرة بالعداء للولايات المتحدة كلما لزم الأمر. المفاجأة أنه لما حاول المقموعون الانتقام وجدوا أن الثأر من الولايات المتحدة أيسر من الثأر من جلاديهم، فكانت أحداث 11 سبتمبر التي صدمت العالم. التحليل العقلاني يفترض إذن أن الإدارة الأمريكية لن تراهن على استقرار مبني على القمع مرة أخرى. فالآثار السلبية لهذا الرهان تصل إليها قبل أن تصل إلى من تدعمهم. صحيح أن القمع هذه المرة مدعوم من قبل حلفاء تقليديين لها، ممثلين في العسكر والليبراليين، ولكن هؤلاء لا يمثلون أوراقا رابحة على الأقل في ضوء أدائهم الحالي. فالليبراليون رغم كل ما يحدثونه من صخب مازالوا يمثلون مساحة محدودة في النسيج المصري، ومن ثم فإن الاعتماد عليهم يمثل استفزازا للكثيرين، وبخاصة من بين فئة الشباب الذين تراجع تسليمهم بالانقسام "المصطنع" للمصريين بين أقلية متميزة وقادرة على ممارسة السلطة وأغلبية عاجزة ومؤهلة فقط للانقياد. من ناحية أخرى، أظهرت النخبة الليبرالية خلال الفترة الأخيرة سلوكا إقصائيا وعدوانيا، ومن شأن دعم واشنطن لأنصار هذا السلوك أن يفاقم من مشاعر العداء لأمريكا في المنطقة. فإذا كان معظم المصريين مقتنعون بأن أمريكا غير جادة في نشر قيمها الديمقراطية، فإن هذا الانطباع يمكن أن يترسخ أكثر إذا أقدمت الإدارة الأمريكية على دعم فريق جاء إلى الحكم على ظهر الدبابات ليروج لخطاب قوامه الكراهية واحتقار الآخر وليبرر على نحو مثير للخزي كل الانتهاكات الحقوقية وكل الدماء التي سالت والمذابح التي ارتكبت على يد نظام وحكومة الانقلاب. أما العسكر فيظهر من خلال سجل أدائهم الحالي أنهم غير قادرين على الاستمرار في تحمل أعباء ما تصدوا له. فرغم كثرة أنصارهم ومؤيديهم، لم يظهر العسكر أي "كفاءة" استثنائية في إدارة مشاكل المجتمع المصري، ولم ينعكس استيلاؤهم على السلطة بأي شكل إيجابي على حياة المواطنين العاديين. ويرجع ذلك إلى أن مهارات العسكريين تتعلق بالأساس بإدارة مصالحهم الاقتصادية الخاصة والمحمية بقوانين استثنائية، وفي تكديس الأسلحة الرادعة، في الوقت الذي تبدو فيه مشكلات الدولة المصرية أعقد من أن ينهض بها طرف تنحصر مواهبه في مراكمة الثروة واستخدام القوة المفرطة لتسوية خلافاته مع معارضيه. من ناحية أخرى تدرك واشنطن أن استيعاب الإسلاميين في إطار العملية السياسية هو أضمن وسيلة لعدم انجرار عناصر منهم إلى العنف أو العمل من تحت الأرض مرة ثانية. خاصة أن الفترة التي قضاها الإسلاميون في الحكم لم تشهد تطرفا من النوع الذي يهدد المصالح الأمريكية أو يخل بأسس العلاقة الإستراتيجية معها بأي شكل. فعلى مدار عام كامل من حكم تيار — يحاول الإعلام المصري حاليا دمغه بالإرهاب بكافة السبل— لم يتم تسجيل أي مظهر من مظاهر التشدد أو الإرهاب في حق شركاء الداخل أو قوى الخارج، غاية ما هنالك أن ظهرت بعض مؤشرات على ما سمي بأخونة الدولة، الأمر الذي يتعلق بخلاف حول توزيع الحصص السياسية وليس بعملية إرهاب فاشي للمجتمع كما يتم تصوير ذلك الآن. هل يُتوقع إذن أن تختار الإدارة الأمريكية التخلي عن الانقلابيين والانحياز للشرعية؟ رغم كل ما سبق لا يوجد ما يضمن ذلك، فالتحليلات العقلانية لا تتطابق عادة مع توجهات ساكني البيت الأبيض، وبخاصة عندما تكون إسرائيل طرفا في الموضوع. فربيبة أمريكا الأثيرة تقف في هذه الأزمة في صف الاستمرار في دعم ومناصرة الانقلاب العسكري. وعليه فإن الاحتمال الأقرب أن تستمر الإدارة الأمريكية في مهادنة الانقلابيين ودعم قوى الأمر الواقع، ولا يمنع هذا من أن تقوم بإدانة سياستهم لفظيا (تصريح أوباما بأن الحكومة المصرية قد اختارت الطريق الخطأ بانتهاج العنف)، أو أن تستخدم مجموعة من الإجراءات التصعيدية الشكلية ضدهم (إلغاء المناورات العسكرية المشتركة)، ولكن من دون أن تغامر بمعاداتهم صراحة. فقط إذا ما تنامى الغضب الشعبي على نحو يتهدد المصالح الأمريكية، يمكن أن نتوقع أن تطالب واشنطن بإجراءات حقيقية لنقل السلطة إلى طرف يحظى بشرعية حقيقية. هذا السيناريو اتبعته الإدارة الأمريكية في أعقاب ثورة 25 يناير، وربما تعاود اللجوء إليه إذا ما شهد الشارع المصري موجة ثورية جديدة يترتب عليها تدهور أداء النظام الانقلابي بما يحول دون استمرارها في مداهنته.