08 أكتوبر 2025

تسجيل

لا تدخلوا من باب واحد

30 يوليو 2020

وصية من أب مشفق كان لا يزال متأثراً بفقد أحب الأبناء إليه وهو صغير، أوصى أبناءه وهم في رحلة من رحلات جلب ميرة العائلة من مصر، بعد أن ضربتهم مجاعة في منطقتهم. قال لهم بوضوح (يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة)، شفقة أبوية على أبنائه من مرض قلبي فتاك، هو الحسد أو العين، هذا المرض القلبي الذي إن تمكن من قلب أحد، فلن يجعل صاحبه يهنأ بحياة إلا أن يرى غيره في ورطة أو مصيبة أو تزول النعم عنه!. اتفق المفسرون على أن يعقوب - عليه السلام – في وصيته لأبنائه، إنما كان يقصد العين الحاسدة. إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر، ألا يدخلوا كلهم من باب واحد – كما جاء في تفسير ابن كثير – وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، فإنه كما قال ابن عباس وغيره: إنه خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة، ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم؛ فإن العين حق، تستنزل الفارس عن فرسه. وجاء في تفسير القرطبي: "إذا كان هذا معنى الآية فيكون فيها دليل على التحرز من العين، والعين حق، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر". وفي تعوذه - عليه السلام- "أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة" ما يدل على ذلك. وروى مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخزار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهلُ رجلاً أبيض حسن الجلد، قال: فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء! فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبر أن سهلاً وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت؟ إن العين حق، اغتسل، فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه؛ فراح سهل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس به بأس. النفوس وهي تتصارع كما أسلفنا من ذي قبل بأن سورة يوسف هي بحق، سورة النفوس البشرية أو سورة الوجدانيات البشرية، كانت النفس الحاسدة سبب كل المشاهد التي وقعت للنبي الكريم يوسف – عليه السلام – حيث نجد في هذه السورة نفوساً بشرية متنوعة، هي نفسها التي تتكرر منذ بدء التناسل البشري، منذ القصة الأولى لابني آدم هابيل وقابيل، وما بعدهما من قصص متنوعة إلى يوم الناس هذا. تجد النفس الطيبة والنفس الحقودة، وثالثة شريرة، ورابعة ساكنة، وأخرى قلقة، إلى آخر قائمة النفوس البشرية المختلفة. نجد هاهنا في قصتنا، النبي يعقوب - عليه السلام - يجسّد لك معاني الأبوة الحقة، ونفسية الأب الحنون المشفق، وما يعني فقدان الولد من بعد استشعار خلافات الأبناء وطغيان شعور الحسد بينهم، ليصل ذروته في لحظات من غيبوبة العاطفة العائلية، إلى حدوث تفكير جماعي شرير للتخلص من أخيهم الضعيف، بعد فقدان الإحساس بتبعات هذا المخطط الشيطاني، وأثره البالغ العميق على أبيهم الشيخ الكبير (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة، إنّ أبانا لفي ضلال مبين) فهكذا هي النفس الحسودة وما تفعل. ننتقل ضمن سياق الحديث عن النفس الحاسدة، إلى مشهد آخر لنرى هناك بين نفوس الإخوة نفساً قلقة متوترة بعض الشيء، لم يمنعها مع كل ذلك الشر المحيط بها، أن تتحرك بأعماقها ذرات من الخير جعلتها لا تهنأ بعض الشيء مما يحاك ضد نفس أخرى بريئة مسالمة، لتعيش تلك النفس القلقة لحظات من التوتر الإيجابي – إن صح التعبير - كانت ثمرته إيجابية تمثلت في فكرة تفتقت عن ذهنه في أحلك وأحرج الأوقات، لتكون بمثابة نقطة تحول مهمة في المشهد، الذي على إثره سيتم انقاذ نفس بريئة من موت محقق (قال قائلٌ منهم لا تقتلوا يوسف وأَلقوه في غيابتِ الجبُّ يلتقطه بعضُ السيارة إِن كنتم فاعلين). تعثرت وتأجلت الخطة في اللحظات الأخيرة بسبب تلك النفس القلقة، ولكن بقية النفوس الشريرة على رغم صوت الخير الصادر عن أحدهم، ما زالت على رأيها وهو التخلص من أخيهم بأي صورة تكون، ليقرر الإخوة بعد أخذ ورد بينهم، إلقاء أخيهم الضعيف يوسف في بئر بعيدة، عوضاً عن قتله، لتدخلنا السورة بعد تلك المؤامرة في مشاهد جديدة ومع نفوس أخرى ستظهر على مسرح الأحداث تباعاً. نعود مرة أخرى إلى موضوع الحديث وهو الحسد، الذي يجعلنا نتفهم خشية الأب على أبنائه، وأنها خشية طبيعية، وخاصة أنهم أحد عشر شاباً قوياً طويلاً وسيماً، فخشي أن يقول الناس: كلهم من أب واحد وهم داخلون من باب واحد، والذي دون شك سيجذب منظرهم العيون، البريئة منها وتلك الحاسدة غير المحبة أن تظهر نعم الله على غيرهم، في صورة لا يمكن تفسيرها سوى أن الحسد مرض نفسي، ما إن يتمكن من القلب حتى تدخله أجواءً من القلق والتوتر الدائمين. نعم، هناك قلوب مريضة حاسدة، يسوؤها رؤية نعم الله على الآخرين، حتى لو لم تكن هناك صلة لهم بتلك النعم على الغير، لا من قريب أو بعيد، وهو ما يبعث على الاستغراب والدهشة: لماذا كل هذا الضجر وعدم قبول الآخر ينعم بفضل الله عليه، وهذا قد يدعونا إلى تلخيص المسألة في عبارة موجزة هي أن الحسد مرض نفسي لا أكثر. الحسد - كخلاصة إذن للحديث - مرض لا علاج مادياً معروفاً له، إلا تقوى الله وتقوية الإيمان في القلب لا غيرهما، هذا بالنسبة للحاسد، أما غيرهم، فإن الأذكار الواردة في السنّة الشريفة حول حفظ النفس والمال والأولاد من الحسد، كثيرة ومتنوعة، منها آيات قرآنية وأخرى أدعية نبوية شريفة يُنصح دوماً بترديدها ليلاً ونهاراً من باب اتخاذ الأسباب، والحافظ أولاً وأخيراً هو الله الذي نسأله أن يحفظنا وإياكم من شر ما خلق، ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد. وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال وكل عام وأنتم بخير. [email protected]