17 سبتمبر 2025
تسجيلأبو بصير هو عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي، لا يعرف عنه الكثير سوى أنه أسلم في مكة ثم هاجر إلى المدينة في هدنة الحديبية التي نصت في بعض بنودها أن يُسَلِّم الرسول إلى سدنة مكة من يفد إليه منها مسلمًا. فأرسلت قريش في طلب أبي بصير، نزولًا على بنود الهدنة. فسلمه الرسول الكريم لاثنين من رجالها. ولما كان في الطريق احتال عليهما، فقتل أحدهما وفرّ الآخر ثم عاد أبو بصير قافلًا إلى المدينة مرة أخرى. ولمَّا علم أن الرسول سيردُّه إلى قريش مجددًا خرج إلى سِيفِ البحر، منطقة تقع على الطريق بين مكة والمدينة. وبدأ يجتمع إليه كلّ من فرَّ من المشركين حتى شكلوا عصبة اشتهرت بقطع الطريق على قوافل قريش، واستباحة ما تحمله من بضائع، حتى اضطُرَّت قريش أخيرًا إلى أن تذهب إلى الرسول الكريم ترجوه أن يُلْحِقَ هؤلاء به. استحضار قصة أبي بصير في هذا المقام سببه أن تنظيم الدولة الإسلامية أطلق على جنوده الذين يشنّون هجمات في دول الغرب "عصبة أبي بصير"، مشبهًا أفعالهم بفعل أبي بصير حينما قتل أحد "المشركين" وهو في طريقه إلى مكة.والصورة التي يضعها التنظيم لـ"الذئاب المنفردة" في الغرب أنهم "نفر من المسلمين قاموا في مشارق الأرض ومغاربها بغزواتهم الفردية ضد الصليبيين، في مواقع متعددة، وبطرق جديدة مبتكرة، فهذا يهاجمهم بسلاح رشاش أردى به أكثر من 100 من أتباع قوم لوط في أمريكا قتلى وجرحى، وآخر لم يجد إلا سكين مطبخ ذبح بها ضابطا في الشرطة الفرنسية. وثالث استخدم سيارة شحن ليسحق بها جمعا من الصليبيين المحتفلين بعيد فرنسا الوطني".وتعود هجمات "الذئاب المنفردة" التي تنتمي إلى تنظيم الدولة إلى سنة 2013 حين قام رجلان في لندن بمهاجمة جندي بريطاني بسيارتهما، ثم دهساه، قبل أن يقوما بقتله باستعمال ساطور وسكاكين. ثم شرعت في سلسلة أعمال مشابهة من أبرزها مجزرة نيس، تفجيرات باريس، هجمات باتاكلان، وكان آخرها عملية ذبح الكاهن جاك هامل البالغ من العمر 86 سنة، في كنيسة.مع تنظيم الدولة مفهوم "الجهاد" لم يعد مرتبطا بالخلايا النائمة التي تنتظر إشارة البدء من مركز التنظيم، وإنما أضحى مشروعًا فرديًا، يمكن أن يبادر إلى فعله أي مؤمن بنظرية التنظيم فور اقتناعه بها، وله الحق في اختيار الطريقة التي تحقق النكاية في العدو، طالما أن المتحدث الرسمي باسم التنظيم أبو محمد العدناني حرّض على ذلك مرارًا وتكرارًا. ففي سبتمبر 2015 دعا العدناني المؤمنين بمشروعية تنظيمه وقضيته إلى قتل كل عدو، قائلًا: "إذا كنت تستطيع قتل كافر، فافعل متوكلا على الله واقتله بأي شكل من الأشكال". وقد سبق له أن قال في شريط سابق "لا تتشاوروا مع أحد، ولا تبحثوا عن أي فتوى، فلا يهم إذا كان الكافر محاربا أو مدنيا، فكلاهما عدو ودماؤه مستباحة". كما لا تهمّ طريقة القتل فـ"إذا لم تتمكن من تفجير قنبلة أو إطلاق النار، حاول أن تكون وجها لوجه مع كافر فرنسي أو أمريكي، ثم قم بتحطيم جمجمته بحجر، أو قم بقتله بسكين، أو بدهسه بسيارتك، أو برميه في الهاوية، أو خنقه، أو تسميمه".لا شك أن التنظيم يريد نقل نظرية "الدارين" أي دار الحرب ودار الإسلام من حيز الافتراض الفقهي تاريخيا إلى حيز الواقع اليوم. وما يقع تحت سيطرته من أرض هي دار إسلام، وما عداها فهي دار حرب. وإطلاق تسمية "عصبة أبي بصير" على ذئابه المنفردة في الغرب يكشف بشكل فج نوع الأهداف التي يسعى لها التنظيم في تلك البلاد. فهو لا يريد تحقيق النكاية فقط، لأن حكومات بعض دول الغرب منخرطة في الحرب عليه، بقدر ما يحث الخطى دافعًا هذه البلدان إلى فرز داخلي بين من هو مسلم وبين من هو "صليبي" ولو أدى ذلك إلى احتراب أهلي، لاسيَّما داخل تلك البلدان التي تضم في مكوناتها أقلية إسلامية كبيرة مثل فرنسا.وتكرار العمليات الإرهابية المنفردة وعجز الحكومات الغربية عن مواجهتها سيؤدي إلى زيادة النزعة اليمينية المتشددة عند الشعوب الغربية مع اقتراب الانتخابات في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا. وحينها ستعمد الحكومات الغربية إلى لفظ كل مهاجر مسلم، طالما أنه إرهابي محتمل. حينها تكون نبوءة التنظيم قد تحققت، وتجلت رمزية تسمية عناصره في الغرب بـ"عصبة أبي بصير" حيث "لن يطول الزمن وسيأتون صاغرين (في إشارة إلى الدول الغربية) يطلبون من الخلافة أن تجدّد دعوتها للموحّدين للهجرة إلى دار الإسلام وترك دار الكفر، وذلك بعد أن يزيلوا بأيديهم كل ما وضعوه من عقبات في وجه هجرتهم، بل ويدفعوا هم من أموالهم تكاليف رحلتهم".