13 سبتمبر 2025
تسجيلأينما وليت وجهك اليوم، ستجد حكومات دول هنا وهناك تدير شعوبها بطريقة وأخرى. منها الجادة المنضبطة، ومنها الجائرة المستهترة، والشعوب صارت ميادين تجارب، وعبرها يتم ضبط أداء الحكومات، فكيفما تفاعلت الشعوب يكون أداء حكوماتها. إن تفاعلت الشعوب بجدية وأظهرت صلابة وقوة مع أي تهاون للحكومة، وجدتها بعد حين، حكومة جادة منضبطة، وإن حدث العكس، وجدت حكومة متهاونة ومنحرفة عن جادة الصواب. الحكومات حول العالم لها مؤسساتها وأدواتها المختلفة التي بها تدير شعوبها. أبرز تلك الأدوات هي الإعلام، بوسائله وأساليبه المتنوعة. إذ عبر الإعلام، والسيطرة على مفاصله ورموزه، يتم نسج الخطط والاستراتيجيات التي بها تُدار الشعوب بطريقة وأخرى، لحين من الدهر قد يطول أو يقصر، بحسب حاجة كل خطة أو استراتيجية ومدى تحقق أهدافها. ربما كثيرون قرؤوا لعالم اللسانيات والناقد السياسي الأمريكي ناعوم تشومسكي، الذي له مقالة في هذا النطاق الذي نتحدث عنه اليوم. حيث كتب في مسألة تلاعب الحكومات والأنظمة بالشعوب، تحت عنوان "استراتيجيات التحكم والتوجيه العشر" والتي كما قال تشومسكي، تعتمدها دوائر النفوذ في العالم، من أجل التلاعب بالشعوب وتوجيه سلوكياتهم، بغرض السيطرة على أفعالهم وتفكيرهم كهدف رئيسي. من المحتمل أن تشومسكي استند فيما كتبه على وثيقة سرية للغاية يعود تاريخها إلى 1979 وعُثر عليها سنة 1986 بشكل غير مقصود، وكانت تحمل عنواناً يقول "الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة". فالوثيقة ربما عبارة عن كتيب أو دليل للتحكم في المجتمعات البشرية وتدجينها والسيطرة على مقدراتها. ويرجح البعض أنها تعود إلى بعض دوائر النفوذ العالمي التي عادة ما تجمع كبار الساسة والرأسماليين والخبراء في مختلف المجالات، لوضع تصوراتهم ورؤاهم في تنفيذ مخططاتهم المتنوعة. ولن نخوض في تلك التفاصيل أو الوثيقة ذاتها، سواء كانت حقيقية أم مختلقة، لأنها لا تهمنا ها هنا بقدر ما يهمنا الآن بعض ما جاء فيها من استراتيجيات وخطط، لنستعرض بعضها ها هنا ونعكسها على الواقع الحالي لكثير من الدول، من أجل أن نتأملها ونتفاكر فيها لمزيد توعية، ومزيد تبصرة بأعمال ومهام الحكومات، وكيف تُدار. إستراتيجية الإلهاء واحدة من تلك الاستراتيجيات المهمة في التحكم بالمجتمعات، تتمثل فيما يمكن تسميته بتشتيت الانتباه أو الإلهاء، وذلك عبر آلية متقنة تلعب وسائل الإعلام دوراً بارزاً فيها. إذ تهدف إلى إلهاء الناس أو الرأي العام عن المشكلات المهمة العاصفة بالشعوب قبل الحكومات، ويتم ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة، وإغراق الناس فيها عبر وسائل الإعلام والتواصل. استراتيجية الإلهاء – كما جاءت في الوثيقة – ضرورية لمنع العامة من الاهتمام بالمعارف الضرورية في ميادين مثل العلوم، الاقتصاد، علم النفس، بيولوجيا الأعصاب وعلم الحواسيب. بحيث تركز مهامها على تشتت اهتمامات العامة، بعيداً عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحقيقية، وجعل اهتمامات الشعب موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقية. بمعنى آخر، مطلوب جعل الشعب منشغلاً على الدوام بتوافه وهوامش الأشياء، دون أن يكون له أي وقت للتفكير!. استحسان الرداءة هذه استراتيجية أخرى تعزز فكرة تشتيت الانتباه، وإلهاء الشعوب بالتوافه ورديء الأفعال والأقوال، حتى تعتاد تلك الشعوب الرداءة وتستحسنها، لتصل بعد حين من الدهر لا يطول عادة، أن تكون شعوباً غبية همجية وجاهلة – أو هكذا تقول الوثيقة - وتلك بالطبع نتيجة طبيعية لعملية نسميها بتسطيح العقول، التي تبرع فيها الأنظمة الحاكمة عبر وسائل إعلامها المتنوعة، وجنود مختارة من النخبة تعمل هنا وهناك في غالبية المجالات، مع آخرين مؤثرين عبر وسائل التواصل الحديثة، ليقوم الجميع بدور تسطيح عقول العامة، وتلهيهم عن قضاياهم الرئيسية بأخرى هامشية لا تسمن ولا تغني من جوع. الآن يمكنك ملاحظة عملية التسطيح فعلياً في أي مجتمع، وذلك من خلال قيام مؤسسات رسمية ووسائل إعلامية تساندها، بنشر الثقافة الضحلة الهزيلة، والاحتفاء بأقلام وكتّاب ضحلين وتسليط الأضواء عليها، مع تجاهل متعمد لأصحاب الفكر والعقل وبُعد النظر، لكي ينشأ بعد حين من الدهر لا يطول، جيل تكون قدوته تلك العقول الهزيلة، وأمثلة أخرى أكثر من أن نحصيها هاهنا في هذه المساحة المحدودة. ولقد ساعدت وسائل التواصل المتنوعة، على ظهور فقاعات إعلامية بشرية، على شكل "فاشينستات" ومشاهير، صارت هي الأخرى تلعب دوراً في عملية التسطيح هذه، بل إن ما يزيد الطين بلة، أنها تنشط وتتمدد بمباركات ومتابعات شعبية غوغائية وأحياناً رسمية مرتبة منظمة!. تسطيح العقول جريمة في القرآن الكريم تلاحظ اهتماماً بمن سماهم الله عز وجل بأولي الألباب، الذين تكرر ذكرهم ست عشرة مرة في مواضع وسياقات مختلفة، وتكرار فعل العقل في تسعة وأربعين موضعاً، للدلالة على أهمية العقل والتفكر عند الإنسان، والذي به اختلف عن باقي الأحياء في هذا الكون، وإن أي مساس بهذا العقل أو تلك الميزة عبر تسطيحه أو دفعه للعمل خارج النطاقات البشرية، فإنما مساس بكينونة صاحبه وآدميته. ما نراه اليوم من شيوع عملية تسطيح للعقول واضحة المعالم في كثير من المجتمعات عبر وسائل متنوعة، إعلامية وثقافية، إنما هي جريمة لا يجب أن تُترك دون ردع أو بيان خطورتها على أمن واستقرار المجتمعات، وذلك أضعف الإيمان. والتساؤل الذي يفرض نفسه ها هنا يقول: ما المطلوب لمواجهة التسطيح؟ اليوم وبسبب عمليات التسطيح المستمرة بكثافة، صار أمر التوعية الفكرية والسياسية والإعلامية، من أفضل أدوات مقاومة حملات التسطيح والتغييب، لا سيما من قبل من تبقى من النخب المثقفة، صاحبة الضمائر الحية أو الواعية ببواطن الأمور وحقائق الأشياء؛ وصار غير مقبول البتة، ترك بعض وسائل الإعلام أو وسائل التواصل المختلفة من تلك التي يقوم عليها صهاينة عرب وفقاقيع إعلامية ملونة هنا وهناك، تسرح وتمرح وتتفنن في تشكيل وتسطيح عقول الشعوب، ودفعها إلى وادي التفاهة والرداءة. صار من الواجب على كل صاحب ضمير حي يقظ، العمل على تفعيل الضد وتوعية الشعوب وتعميق الفكر لديها، واستثمار الوسائل ذاتها أو الأسلحة المستخدمة في التسطيح والتجهيل، من أجل صناعة ثقافة التدبر والتفكر والتأمل وفهم الواقع، والتي لا شك أن نتاجاتها ستكون عظيمة الأثر، لا سيما في وجود عشرات من القضايا التي تتعرض للتسطيح والتشويه كل يوم، مثل قضية الأقصى والتطبيع أبرزها، ثم فقدان الهوية الإسلامية تاليها، وقضايا أخرى غاية في الأهمية، كنشر الإلحاد والإباحية والشذوذ وغيرها كثير. عملية بناء العقول ونيل مسمى المصطلح القرآني العظيم – أولي الألباب – ليست سهلة، بل صعوبتها لا تختلف عن صعوبة قيام أي بناء أو كيان، على عكس الهدم والتشويه والتخريب. فكلما كان البنيان محكماً رصيناً راسخاً، استطاع الصمود أمام حملات التشويه والتخريب والتسطيح. فهكذا هي قوانين هندسة البناء والتعمير والإنشاء.. ثم إن الله، أولاً وآخراً، غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.