19 سبتمبر 2025

تسجيل

هل تعيد تركيا الاعتبار لقوتها الناعمة؟

30 يونيو 2012

في العام 1998 هدد الجيش التركي أولا ومن ثم رئيس الجمهورية آنذاك سليمان ديميرل الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بحرب شاملة إن لم يخرج من سوريا زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجالان.وبعد حوالي الأسبوعين من الحسابات والتهديدات والوساطات ومنها وساطة الرئيس المصري حسني مبارك أمكن تجاوز الأزمة بقرار من الأسد بإبعاد أوجالان إلى الخارج فتنقل بين بعض العواصم إلى أن خطف من كينيا وهو الآن معتقل في سجن بجزيرة ايمرالي التركية بالمؤبد بعدما ألغيت عقوبة الإعدام التي استفاد منها. قبل أسبوع قامت الدفاعات الجوية السورية،بصاروخ أو مدفعية، بإسقاط طائرة عسكرية تركية من طراز إف- 4 فوق المياه الإقليمية السورية بعدما اعترف الرئيس التركي عبدالله غول بأنها انتهكت السيادة السورية. وبمعزل عن التراجع عن كلام غول بعد يومين واعتبار وزير الخارجية التركي عبدالله غول أن الطائرة ضربت في الأجواء الدولية لكنها سقطت في المياه الإقليمية السورية،فإن أنقرة لم ترد على إسقاط الطائرة وبالتالي تفادت المنطقة خطر حرب بين البلدين. لكن صورة تركيا بسبب الحادثة اهتزت كما لم يسبق لها. لم ترد تركيا على سوريا بالمثل، تعففا أو درءا لمخاطر الحرب وتداعياتها.ولكن بعد سنة ونيف من بدء الأزمة في سوريا وجدت تركيا نفسها أمام معادلات وحسابات أفقدتها عنصر زمام المبادرة بعدما كانت مركز الجذب الذي تتجه إليه الأنظار وتلجأ إليه القوى الباحثة عن حلول سلمية لمشكلاتها. 1- لم تعد "المسألة السورية" حدثا محليا أو حتى إقليميا بل تحولت سوريا وفق آخر تصريح روسي إلى المركز الرئيسي لرسم ملامح النظام العالمي الجديد.وفي ضوء نتائج الصراع على سوريا سيتجه العالم إما إلى نظام يعزز الأحادية القطبية أو يبدأ مرحلة من التوازن النسبي في توازنات القوة العالمية.ولذلك لم يعد في إمكان تركيا أن تتحرك في سوريا أو تجاه سوريا بطريقة تعرّض الحسابات"الكبرى" للمفاجآت أو تتعارض معها.والردّ على حادثة مثل إسقاط الطائرة التركية قد يعرض المنطقة بل العالم برمته إلى ما لا يمكن التكهن بتداعياته.وهكذا وجدت تركيا نفسها عاجزة عن رد الاعتبار لهيبتها. 2- لقد أدخلت حكومة حزب العدالة والتنمية سياسة تركيا الخارجية منذ بدء سعيها لإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد في مواقف ضيقت خياراتها في مواجهة أي حادثة أو تحدّ.فقد أصبحت طرفا مباشرا في صراع داخلي في دولة أجنبية، ولو كانت مجاورة مثل سوريا، بحيث انحصرت خيارات الرد على إسقاط الطائرة إما المجازفة في حرب ثنائية أو إقليمية غير مضمونة النتائج أو الظهور بمظهر العاجز عن الردّ.ولو أن تركيا انتهجت سياسات أكثر مرونة ولو في الشكل وأكثر ذكاء في التعامل مع الأزمة السورية لما وصلت إلى لحظة الخيار بين السيئ والأسوأ ولما وصلت أصلا إلى أن تكون في مثل هذا الوضع الحرج. 3- لقد تصرفت تركيا تجاه الأزمة السورية تحديدا على أساس أنها قوة إقليمية كبرى.ومع أنها كذلك، لكنها سهت عن الأبعاد الدولية للأزمة ودخلت في حسابات قصيرة المدى وقصيرة النظر.فكان أن أحرقت المراكب خلفها وفرضت حزمة من العقوبات الشاملة اقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا على سوريا بحيث فرغت جعبة العقوبات من عقوبات أخرى يمكن استخدامها في لحظة ما.ولم يعد أمامها سوى خيار الرد العسكري على إسقاط الطائرة.ولما كان هذا الخيار محظورا وفق قرارات القوى الكبرى فقد وجدت تركيا نفسها عارية حتى من دون ورقة توت وغير قادرة على الرد.وهو ما تُسأل عنه دوائر صنع القرار ولاسيَّما في الخارجية التركية. 4- أن ذهاب تركيا إلى حرب مع سوريا غير ممكن من دون إجماع داخلي.وسياسة أردوغان تجاه سوريا تواجه بمعارضة شاملة من كل زعماء المعارضة والذهاب إلى الحرب يعارضه 95 في المائة من الأتراك وفقا لآخر استطلاع بعد إسقاط الطائرة التركية. 5- لقد قال رئيس أركان الجيش التركي نجدت أوزيل إن عدم تحرك الجيش التركي لضرب قواعد حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل في شمال العراق ناتج عن عدم وجود موافقة أمريكية على ذلك.فإذا كان ضرب حزب في منطقة جغرافية محدودة يحتاج إلى موافقة أمريكية فكيف له أن ينال موافقة على رد عسكري تركي على سوريا يمكن أن يجر إلى حرب إقليمية ودولية وعشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟ إن حيثيات تركيا كقوة إقليمية،على حدود الكتلة العربية والكتلة الإيرانية وكونها عضوا في حلف شمال الأطلسي ولها علاقات مع إسرائيل، كانت تحتاج إلى استراتيجية مختلفة لمواجهة المتغيرات والتحديات الإقليمية.ومع أن الأمل ضعيف ومستبعد،لعل حادثة إسقاط سوريا للطائرة التركية تدفع أنقرة إلى مراجعة سياساتها السورية والإقليمية بحيث تستعيد تركيا دورها كقوة ناعمة،أساس صعود الدور التركي، لا خشنة فتكسب وتكسب كل المنطقة ولا تجد نفسها مثل نمر جريح ينزف من هيبته وصورته.