16 سبتمبر 2025
تسجيلفي بادرة تستحق غاية التقدير والإكبار، أطلقت صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر، في حفل تكريم خريجي مؤسسة قطر 2017 جائزة "أخلاقنا" التي تمنح للشباب الواعد الذي جمع بين الخلق الكريم والعلم النافع، وذلك في لفتة واعية وإشارة حكيمة إلى أهمية الأخلاق في قيادة ركب العلم والمعرفة. مما لا مجال للخلاف فيه، أن العالم اليوم قد حقق تقدماً علمياً غير مسبوق، ونهضة تكنولوجية بالغة الأثر في حياة البشرية، ومع هذا، فكل ذلك لم يكف لإسعاد البشر بسبب عدم استناده إلى جملة من الأخلاق المتينة باعتبارها الشرط الأساسي لقيام وديمومة أي حضارة يستطيب البشر في ظلها الحياة؛ وبفقدها ينقلب العيش إلى جحيم لا يطاق، ومفازة مهلكة تُفتقد فيها كل المعاني الحقيقية للإنسانية الكريمة. فالتقدم العلمي بغير ضوابط أخلاقية، وإن حقق بعض الفوائد العاجلة على المدى القريب، إلا إن آثاره المدمرة على المدى البعيد أكثر بكثير من فوائده، وها هي الآثار المدمرة للتغير المناخي والتهديدات بالحروب النووية والكيميائية والجرثومية وغيرها من الكوارث التي تهدد البشرية بأوخم العواقب ماثلة أمامنا. وهذا يؤكد أن العلم الذي تزدهر به الحضارات وترتفع به الأمم ليس هو مطلق العلم، إنما هو العلم المؤسس على الأخلاق، فالعلم مهما طال بناؤه وعظمت إنجازاته فهو إلى انهيار ودمار ما لم يكن له من الأخلاق نصيب عظيم وحظ وافر. وقد نبّه الله تعالى إلى ذلك في كتابه إذ يقول: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ ورِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة : 109 )". فأي بناء حضاري سليم لا بد أن يكون له ركنان متينان: ركن معنوي، وركن مادي، فالركن المعنوي لنهضة الأمم هو الأخلاق ومنظومة القِيَم الذي عبّرت عنه الآية الكريمة بالتقوى، وأما الركن المادي فهو العلم، ومن ثمَّ فالعلم وحده لا يصنع السعادة للبشرية إن لم ترافقه الأخلاق وتسعده القيم، بل ربما كان سبباً للشقاء والبلاء. وهذا ما عبّر عنه فرنسيس باكون بقوله: "إن تسعة أعشار مصائبنا ومتاعبنا كانت خيرات وبركات أغدقت علينا ونحن حولناها إلى عكس ما أريد بها". ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حين يقول: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا وقد دأب المصلحون والمفكرون على التذكير بهذا البيت، الذي جرى على الألسن مجرى الأمثال، وذلك في معرض التأكيد على أهمية الأخلاق في بناء الأمم، وفي تواصل بقائها قوية متينة صامدة أمام المحن قائمة بدورها الحضاري، حتى إذا تنكبت عنه وغيبتها عن ساحتها فإن مآلها إلى الضعف والانحلال. فالحضارة التي تتنكر للأخلاق، وإن مضت قدماً في التقدم المادي إلى أبعد مدى، هي حضارة مفلسة لا قيمة لها، لا تلبث أن تنهار وتزول. ولهذا عندما عقدت أمتنا عقداً محكماً بين العلم والخلق، بل كان تَعلم الخلق عندها سابقاً على تَعلم العلم تميزت وأبدعت في كل الميادين ومختلف المجالات: سواء العلمية أو الأدبية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية. وقد سجل ذلك المؤرخ والفيلسوف الأمريكي وِيل ديورَانت وهو يتحدث عن التعليم عند المسلمين في كتابه قصة الحضارة فيقول: "وكان التعليم الأولي يهدف إلى تقويم الأخلاق، والثانوي إلى معرفة العلم". وعندما ضعف حظ الأمة في هذين الركنين (العلم/الأخلاق) تحولت إلى ذيل القافلة البشرية بعد أن كانت بالأمس القريب في مقدمتها تقودها بكفاءة واقتدار. إن خير ما من شأنه أن يبرز قيمة الأخلاق ومنزلتها في الإسلام هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، حيث لخص أهداف رسالته السامية على سعتها وشمولها في هدف رئيسي واحد هو نشر الأخلاق وتأصيلها في حياة البشر، ويبدو هذا جلياً من خلال استعمال صيغة الحصر المستفادة من الأداة "إنما". وإذا كانت العقيدة الإسلامية بمثابة الجذور للشجرة فإن الثمار هي الأخلاق، تؤكد ذلك أي نظرة فاحصة للتشريع الإسلامي في مختلف أبوابه (عباداته ومعاملاته)، حيث يظهر جلياً أن هذه التشريعات قائمة في كلياتها وجزئياتها على أساس أخلاقي متين، وأنها إنما ترمي إلى أن تسود الأخلاق المجتمع المسلم وأن تصبح عادة مستحكمة في أفراده. في إطار هذه المكانة الرفيعة للأخلاق، تأتي مبادرة صاحبة السمو الشيخة موزا بتخصيص جائزة للأخلاق بين طلاب العلم، تتويجاً لجهودها الرائدة ومساعيها المشكورة في مجال نشر العلم والمعرفة، حتى يصبح طالب العلم كما قال الشاعر: ولو أنني خيرت كل فضيلة ... ما اخترت غير مكارم الأخلاقِ فأعظم بهذه الجائزة من توجيه ينبغي أن يُحتفى به وتجند له الطاقات وتحشد له الإمكانات داخل كل أروقة العلم؛ لتصبح الأخلاق معايير ثابتة، وقوانين ضابطة، يقاس بها سمو العلم، كما يوزن به نبل العالم والمخترع والمكتشف، ويُقيّم بها ارتقاء وتقدم وازدهار المؤسسات التعليمية، تماماً كالمعايير الأكاديمية، سواء بسواء.