17 سبتمبر 2025
تسجيلأعلن رئيس البرلمان التركي إسماعيل قهرمان أن الدستور التركي الجديد الذي يعد له يجب ألا يتضمن إشارة إلى العلمانية وأن تؤخذ في الاعتبار فيه الهوية الإسلامية لتركيا.وقد أثار هذا التصريح -الموقف ضجة كبيرة كما لدى التيارات العلمانية كذلك لدى أوساط حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه قهرمان.ولا شك أن النقاش كما السجال حول العلاقة بين الدين والعلمانية في تركيا ليس جديدا. ورغم أن الدولة العثمانية دولة دينية في المبدأ فإن مسار التحديث والتغريب في تركيا ترافق مع إصلاحات جعلت من إصلاحات العام 1856 محطة فاصلة بين مرحلتين حيث تمت المساواة في الحقوق والواجبات إلى حد كبير بين المسلمين والمسيحيين واليهود حتى داخل الجيش العثماني. وقد استمر هذا الوضع إلى نهاية الدولة العثمانية في العام 1918.وكانت مرحلة إعلان الجمهورية في العام 1923 ذروة مرحلة التغريب والإصلاح على النمط الغربي. حيث اعتمدت لاحقا العلمانية في الدستور. لتكون تركيا بذلك البلد المسلم الأول الذي يدخل هذه التجربة رغم تجربة سابقة في ألبانيا لم يكتب لها النجاح.اندفاع تركيا في مسيرة التغريب ترافق مع تحول في خياراتها السياسية. إذ إن اعتماد الديمقراطية التعددية في العام 1945 كان جزءا من شروط الغرب لجعل تركيا جزءا من المعسكر الغربي لمواجهة الشيوعية والاتحاد السوفيتي. ومن تلك الشروط أيضا لاحقا الانضمام إلى حلف الناتو والاعتراف بإسرائيل.العلمنة كانت من شروط تعاون الغرب مع تركيا في العام 1923 لترسيم حدودها وفقا لما كان يريده مصطفى كمال أتاتورك.ومنذ ذلك التاريخ والعلاقة بين الهوية الإسلامية والعلمانية مثار صراع وصدام وليست مثار نقاش وتطوير. لأن التيار العلماني على امتداد العقود اللاحقة كان يمارس سياسة علمانية لا تنسجم مع علمانية الغرب وتلحق الضرر بالاستقرار الاجتماعي في تركيا. أي أن تركيا كانت على موعد مع علمانية على الطريقة التركية. فلم تقف الدولة على مسافة من كل الطوائف الدينية ولا المذاهب حتى داخل الدين الإسلامي. ووقفت موقفا استفزازيا من الحريات الفردية حيث منعت الطالبات المحجبات من دخول الجامعات ما لم يخلعن الحجاب. كما تم التضييق على فرصة انتساب الطلاب الإسلاميين إلى مؤسسات معينة في الدولة، والأمثلة كثيرة.وبلغت ذروة هذا الصراع مع الإطاحة بحكومة نجم الدين أربكان في العام 1997 عندما أغلقت المدارس الدينية ولوحق الإسلاميون وزعماؤهم وحظرت أحزابهم وتوعد العسكر الإسلاميين بحرب ألف عام.عندما جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 كانت رغبة فئات واسعة من المجتمع تخفيف حدة الصراع الداخلي بما يضمن حريات دينية أكثر، في أساس تأييدها لحزب العدالة والتنمية. واستمر هذا التأييد وبزخم أكبر بعدما لمست رغبة الحزب في تعزيز الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان.غير أن الصراع بين العلمانيين والإسلاميين عادت حدته لترتفع في السنوات الأخيرة مع ازدياد جرعة التدين في تركيا ما اعتبره العلمانيون خطرا على الطبيعة العلمانية للنظام ومن ذلك إعطاء حريات كبيرة للدخول إلى المدارس الدينية التي ارتفع عدد الطلاب المنتسبين إليها أضعافا مضاعفة. فيما وافق العلمانيون على دخول المحجبات الجامعات انطلاقا من مبدأ أنها مسألة تتعلق بالحريات الفردية وليس كفريضة دينية.ومع أن أردوغان أعطى إشارات إلى أن تركيا علمانية وستبقى علمانية غير أن العديد من مسؤولي حزب العدالة والتنمية كانوا يلمحون بل يعربون علنا عن رغبتهم في تعديل الدستور والقوانين بما يعكس الهوية الإسلامية لتركيا.اليوم يعتبر تصريح رئيس البرلمان التركي إسماعيل قهرمان عن ضرورة عدم تضمين الدستور الجديد أي إشارة إلى العلمانية الإشارة الأكثر وضوحا ومباشرة في هذا الاتجاه. ولقد أحدث هذا التصريح اعتراضا شديدا من قبل العلمانيين كافة. ولكنه لم يقابل في الوقت نفسه بتأييد كامل لدى حزب العدالة والتنمية الذي انقسم مسؤولوه بين مؤيد ومعارض وبين من يرى ذلك حرية في التعبير الديمقراطي عن المواقف.ولا يشك أحد أن المرحلة المقبلة من تاريخ تركيا ستشهد المزيد من التجاذبات والصراعات بين التيارين العلماني والإسلامي في بلد تعتبر العوامل الخارجية، ولاسيَّما الموقف الغربي - الأوروبي، مؤثرا كبيرا في تقرير بل حسم الصراع بين التيارين.