18 سبتمبر 2025
تسجيلواجهت سياسة المسافة الواحدة من كل الأطراف التي اعتمدتها الدبلوماسية التركية على امتداد السنوات القليلة الماضية تحديات جدية للمرة الأولى بعد اندلاع موجات الثورات والاحتجاجات في الشارع العربي. وإذا كانت هذه الدبلوماسية الناعمة في جوهرها قد انهارت مع انهيار العلاقات التركية الإسرائيلية بعد العدوان على غزة، فإن الامتحان للدور الوسيط قد ظهر خلال الأسابيع القليلة الماضية وفي أكثر من ملف. ففي ليبيا حاولت تركيا حقن الدماء هناك من خلال مبادرة من ثلاث نقاط تتيح انتقالا سلميا للسلطة عبر انتخابات حرة لا تستبعد عائلة القذافي منها على قاعدة أنها قوة وازنة لا يمكن تجاهلها. غير أن هذه المبادرة لم تبصر النور لأن القوى المعادية للقذافي الغربية منها والعربية كانت تريد اجتثاث النظام لا إصلاحه فضلا عن الأجندات السرية ولاسيَّما لفرنسا والغرب التي تتجابه مع السياسة التركية في المتوسط وأوروبا ولا تريد لأنقرة نجاحا في ليبيا. وسعت تركيا أن تتوسط بين السلطة في البحرين والمعارضة بعد طلب من مرجعيات عراقية،غير أن هذه الجهود لم تسفر عن أي نتيجة واختفى الحديث عن هذه المبادرة كلية، غير أن التحدي الأبرز أمام تركيا كان في الحالة السورية، فسوريا ليست لتركيا كأي بلد عربي آخر جرت فيه احتجاجات. إذ أن سوريا بلد مجاور لتركيا ولها معها حدود بطول 800 كلم كما أن الأمن القومي التركي مرتبط جدا بالاستقرار في سوريا بسبب تداخل المشكلات الأمنية ولاسيَّما الانفصالية الكردية والتداخل الاجتماعي بين الشعبين وانفتاح الحدود، كذلك تتشابه البنى والمذهبية في البلدين بحيث إن أي اضطراب أو اهتزاز في سوريا يؤثر في الداخل التركي والعكس أيضا صحيح. أيضا أن سوريا كانت المجال الجغرافي الذي مارست من خلاله تركيا وبنجاح سياسات الانفتاح وتصفير المشكلات. ما قدمته سوريا خلال الأعوام الماضية لتركيا كان خياليا، لذا فإن تركيا سعت منذ البداية إلى انتهاج موقف يجمع بين مطلب التغيير وبين ضرورة الاستقرار في سوريا. ذلك أن التجارب التي لا تزال مفتوحة كانت سيئة جدا في بلدان ذات بنى متعددة. من ذلك العراق الذي انتهى إلى التقسيم وكان منشأ للفتنة الشيعية السنية وليبيا التي دخلت في حرب أهلية وتدمير لقدراتها الاقتصادية وثرواتها عموما. وتركيا تخشى أن تكون سوريا أمام واحد من سيناريوهين إما حرب أهلية مفتوحة وعدم استقرار كما هو في ليبيا أو انتهاء الوضع إلى تفتيت كما في العراق. لذا فإن أساس الموقف التركي الآن هو التجاوب مع مطالب الإصلاح من قبل السلطة في سوريا بل قيادة الرئيس بشار الأسد لعملية التغيير. إن معادلة التغيير مع الاستقرار معادلة صعبة لكنها غير مستحيلة بل مطلوبة حتى لا تشهد سوريا نهايات مأساوية يكون المستفيد الأول من إسرائيل التي تستفيد من بعض الثورات لكي تنفذ منها بالتعاون مع الغرب لإحداث تحولات في السياسات الأساسية لسوريا في منطقة الشرق الأوسط. وتركيا بتقديرنا قادرة على لعب دور إيجابي خصوصا أنها تواصل امتلاك العناصر التي أدخلتها إلى المنطقة وهي التواصل مع كل الأطراف. ومن ذلك استمرار التشاور المباشر بين أنقرة والقيادة السورية وأيضا وجود علاقات تركية "حاضنة" للمعارضة السورية التي نشطت مؤخرا على الساحة التركية وهو ما له دلالة رغم أن المسؤولين الأتراك يقولون إنهم لا يستطيعون منع أحد من التعبير عن رأيه وعقد اجتماعات انطلاقا من حرية الإعلام في تركيا، مع ملاحظة أن هذا يمكن أن ينطبق على الأتراك في تركيا وليس على الأجانب الذين يدخلونها وقد يعرضون علاقات تركيا الخارجية للحرج. ربما تستطيع تركيا التعويض عن إخفاقها في ليبيا والبحرين وبعدما خرجت من الوساطة بين سوريا وإسرائيل. وهذه فرصة ليس فقط للدبلوماسية التركية لتحقيق إنجاز ما بل إنها فرصة لسوريا ولمعادلة التغيير والاستقرار التي ليس من بديل لها إلا الفوضى والتقسيم.