16 سبتمبر 2025
تسجيل(1) ينطلق العالم أجمع في سباق الألفية الجديدة بشكل صاروخي - ونحن في بدايات عقدها الثالث - نحو العلم والمعرفة، وإذابة الحواجز، والاستثمار الأمثل للموارد المتاحة، وفي أثناء هذا الانطلاق المتسارع قد تندثر هُويات متعددة، وتتشكَّل هُويات جديدة أقل ارتباطاً بأصولها لتتماهى (أو على الأقل تتماشى) والواقعَ الـمَعيش في زمان "الانفجار الحضاري العظيم". والتغيير سُنَّة كونية خلق عليها الله تعالى الخلق، ووقفنا على كثير من ملامحها من خلال دراسة التاريخ البشري وما مر به من مراحل ازدهار وانحدار، ولعلنا نعيش في هذه الألفية أرقى مراحل الحضارة الإنسانية بما توصل إليه العلم والتكنولوجيا من إنجازات باهرة تكاد لا تُتصوَّر قبل عشر سنين مضت. وهذه السُنَّة التغييرية قد تجعل البعض يتصور أن العالم أجمع ينبغي أن يذوب في هذه البوتقة الحضارية الضخمة، إلا أننا - عرباً ومسلمين - لدينا هُوية خاصة تبلورت عبر تعاليم ديننا الحنيف، وصُقلت على يد سيد البشرية ونبيها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالعنصر الذي شكَّل هُويتنا وحاطها في آنٍ معاً، بعد الدين الإسلامي وأخلاقه السمحة، هو لغتنا العربية التي جمعت ملايين البشر على هذه البسيطة، وحظيت بحفاوة ربانية حين اختارها الله لتكون لغة كتابه العزيز الذي أنزله نوراً وهدى للعالَمين، بل للكون جميعاً. ومن المتخيل أن تضعف اللغة العربية وغيرها من اللغات بناءً على ما أسلفنا من القول باندماج الحضارة العالمية وتماهي عناصرها المتمايزة في بعضها، تماهياً إيجابياً متوازناً، لا انسحاقاً كتبعية المغلوب للغالب. ولكننا، بالرغم من التسليم العام بهذه الفكرة (على ما يوجَّه إليها من نقد، بل و"نقضٍ" أحياناً!)، ندرك تماما أن لغتنا العربية محفوفة بعناية إلهية حيث نزل الذكر الحكيم (كما سبقت الإشارة) بها دون سواها، فقد قال تعالى: "إنا نحن نَـزَّلنا الذكر، وإنا له لحافظون" (الـحِجْـر: 9). (2) وقد أسهمت عناصر عديدة في إضعاف اللغة العربية، اهتم برصدها وتحليلها الباحثون في حقول اللغة والمهتمون بالسياقات الثقافية عامةً.. ونكتفي هنا ببعضها فقط؛ رعايةً للاختصار وطلباً للتركيز. - قلة الجهود المبذولة لتطوير مناهج علوم اللغة العربية وآدابها في المدارس والجامعات بشكل عصري مواكب للتقنيات الحديثة. - ضعف الإعداد للأَطْـقُم التدريسية القائمة على تدريس اللغة العربية، وانعدام دافعية التعلم التطويري الذاتي عند الكثير من المعلمين بسبب كثرة المهام وازدحام الوقت. - السياسة التعليمية الخاصة في بعض المدارس ثنائية اللغة، التي تقلل من النصاب العام لتدريس اللغة العربية في الجدول الأسبوعي لحساب بقية المواد الدراسية. - مبالغة بعض المؤسسات وجهات العمل في اشتراط إتقان اللغة الانجليزية للحصول على وظيفة عادية في المجتمعات العربية. - بعض الأسر تعتني بتعليم الطفل اللغة الإنجليزية لغةً أولى؛ استجابة لاحتياجات سوق العمل، أكثر من العناية باللغة الأم؛ مما يضعف اللغة العربية في قاموس الطفل، حتى على مستوى الخطاب اليومي، بل وحتى على مستوى اللهجة العربية الدارجة في بعض الحالات! ولا مفرَّ من أن هذا الضعف سينسحب على أسرته المستقبلية، فتكبر "كرة الثلج" بتكرار هذه النماذج الأسرية. - والبعض الآخر من الأسر يمارس التقليد الحضاري (أو بالأحرى: اللاحضاري!) دون وعي، معتبراً أن اللغة الإنجليزية هي لغة الوجاهة المجتمعية، فيحرص على تغذية هذه الفكرة "الاستتباعية" في محيطه ومحيط أبنائه. والباحث في أسباب ضعف اللغة العربية قد يجد عشرات من الأسباب الظاهرة أو الكامنة، وهي تختلف (في جذورها وأبعادها وتجلياتها ونِسَبها) من مجتمع لآخر، ومن "شريحة" اجتماعية وأخرى، ولكن ما يعنينا في هذه المقالة المركزة هو سؤال العلاج والنهوض: كيف نحفظ تراثنا، المتمثل في لغتنا وهُويتنا، وننقذه من هاوية التدهور والضعف؟، وكيف ننهض من هذه الكبوة الحضارية؟. (3) موجز الحل، من وجهة نظري، انطلاقاً من اهتمامي القديم/ المتجدد باللغة العربية، يتمحور في مبادئ ثلاثة: الالتزام، والإلزام، والاستدامة، وقبل بسط رؤيتي ثلاثية الأبعاد هذه بشيء من التفصيل، أحدد أولًا بإيجاز وبأسهل العبارات المعنى الاصطلاحي لهذه المبادئ الثلاثة. - الالتزام: هو تفاعل الذات الحر مع القضية أو الحدث، وتبنيهما (أو أحدِهما) عن قناعة وإرادة، وإن خالفا (أو أحدُهما) ميولَ الشخص ورغباته. - الإلزام: هو فعل قوة خارجية عن الذات، كالسلطة الحاكمة أو التنفيذية أو التشريعية والقضائية، التي لها حق الأمر والنهي، أو التطبيق، أو المراقبة والمحاسبة. - الاستدامة: هي الحفاظ على الاستمرارية والحياة اعتماداً على حُسن استثمار الموارد وتنميتها وتوسيعها. أما سؤال: كيف نطبق هذه المبادئ في مجال الحفاظ على لغتنا العربية الأصيلة؟؛ فسأصوغ، بإيجاز وتكثيف أيضاً، جوابه في عدة نقاط في كل مجال على حدة. (4) 1- الالتزام: يمكن تنمية التزام الأفراد بقضية العربية من خلال: - التربية الوالِدية: حيث تكون العناية منذ البدء بتعزيز قيمة اللغة العربية في الأسرة، بوصفها حاضنةً للهُوية والقيم التربوية، فمثلاً يمكن أن يخصص الوالدان أوقاتاً أسرية دافئة للتحدث مع أطفالهم باللغة العربية الميسَّرة، أو قراءةِ قصص بالعربية قبل النوم، مع الحرص على مخاطبة الأطفال باللغة العربية عند تعليمهم تسمية الأشياء والأفعال بأسمائها، والتدرجِ عبر مراحل نمو الأطفال، وإدخالِ قصص التراث الإسلامي وقصص الأنبياء بصوغها العصري (والإنتاج الحديث في هذا المجال كثير ومتنوع)، وتشجيعِ الأطفال على عادة القراءة عموماً، وتعزيزِ إنجازهم وتثمينه بالتشجيع والمكافأة باستمرار، مع جعلِ هذا كله نمطاً حياتياً حياً وجذاباً بقدر الإمكان، وليس مجرد عمل يؤدى من غير روح!. - من الممكن تنمية الالتزام كذلك عند الأسر بصورة جماعية/ اجتماعية.. حين تبادر الأسرة لدعوة بقية الأسر في الحي الواحد، أو الأسر التي ترتبط في علاقة قرابة أو زمالة لممارسة أنشطة أسبوعية كالمسابقات والفعاليات الـمَصوغة لتعزيز اللغة العربية، مع الحرص على تنوع هذه المسابقات والأنشطة بما يثري حياة الأطفال وينمي قدراتهم مع إمتاعهم وإسعادهم. - التزام المعلمين الواعي بتشجيع استخدام العربية في الصفوف وخارجها، والتزامهم بتطوير وسائلهم التدريسية؛ لجذب الطلاب لمحتوى الدروس العربية، وخلق منافسة شيقة بين حصص اللغة العربية وغيرها من حصص اللغات الأخرى. هذا.. مع العلم أن دائرة الالتزام دائرة "لولبية"، قابلة للتمدد والنمو، ويظل بالإمكان إيجاد العديد من الأفكار التي تطبق على مستويات فئات المجتمع كافة، ولكننا نكتفي هنا بالأمثلة التي سقناها في هذا المجال. (5) 2- الإلزام: يختص هذا العنصر، كما سبق، بالسلطة العليا في كل مجتمع.. حاكمةً، أو تنفيذيةً، أو تشريعيةً وقضائيةً، وبالإمكان تحقيق هذا المبدأ من خلال ما يلي: - تبني الدولة، بوصفها سلطةً عليا، قضيةَ حماية اللغة العربية (إرثاً حضارياً، ووعاءً حاملاً وحافظاً للهُوية)، وسنَّ القوانين والتشريعات الملزمة لجميع الجهات بجعل اللغة العربية تحظى بمكانتها اللازمة، ومن الجدير بالذكر أن دولتنا الفتية قطر قامت بجهود رائدة في مجال سن قوانين حماية اللغة العربية، وجعلها اللغة الأولى في المخاطبات الرسمية والاجتماعات والمكاتبات في جميع الوزارات والهيئات والدوائر الحكومية. - ومن مظاهر الإلزام التي ترجمت على أرض الواقع ما نجده من حرص على استخدام اللغة العربية في وسائل الإعلام المختلفة في دولة قطر، وما نرصده من برامج مرئية ومسموعة ومكتوبة مصممة بهدف رفع الوعي المجتمعي بقضية الهوية العربية المتمثلة في سلامة اللغة العربية. - صناعة المناهج: لابد أن تنال هذه المسألة عناية القائمين على التعليم في كل مجتمع، ولابد من استثمار جانب من الموازنات المالية التي تخصصها الدولة لبندي التعليم والصحة، من أجل تطوير مناهج اللغة العربية، مع الاستفادة من الخبرات الدولية والمحلية، ودمج التكنولوجيا الحديثة بشكل تطبيقي لإحياء دروس العربية وجعلها مواكبة لروح العصر واحتياجاته، جاذبة للطلاب، وقريبة من حياتهم وخبراتهم اليومية، والمتتبع لجهود الدولة في مجال الإلزام سيجد نماذج أخرى عديدة تدل عليه واضح الدلالة. (6) 3- الاستدامة: وهذا المبدأ الثالث مرتبط بسابقيه، ارتباطَ الصفة بالموصوف، وما فصَلناه إلا لتسهيل الطرح وفرز عناصره، والاستدامة تتأتى من خلال الآتي: - الوعي التام من جميع أصحاب الشأن المهتمين باللغة العربية، هُويةً وطنيةً جامعةً، بأن قضية اللغة العربية ليست مجرد شعارات اجتهادية ترفع لمجرد إثبات أننا نعمل، بل لابد من أن يصاحبها إيمان حقيقي ويقيني بأهمية هذه الجهود، واعتبارها مصيرية في حفظ تراثنا لأبنائنا، وتجنيبهم ضياع الـهُوية مستقبلاً حين تزداد التيارات العالمية تماوجاً نحو "الامتزاج الشامل" على نحو ما يرى بعض المراقبين والمنظِّرين. - لابد من إدراك أن هذه الجهود الحامية للغة العربية والـهُوية الوطنية لا سقف زمنياً لها، فلابد من استمراريتها وتغذيتها وعدم استعجال أثرها المجتمعي، فإن آثارها الإيجابية الواضحة ربما لا تظهر إلا في المدى البعيد، ومن الخطورة أن تتراجع أو تضعف، فضلاً عن أن تقف أثناء طريق العلاج والتأسيس.. وهو طريق طويل. - لابد من تنويع مصادر دعم العربية؛ فبالإضافة للقوانين الملزمة، والبرامج الرسمية المعتمدة، والمناهج الدراسية، نحتاج إلى فعاليات واسعة، ومكررة، وجاذبة، وعصرية، موجهةً لجميع فئات المجتمع (كالتي تقدمها "مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع"). - تفعيل الترجمة الفورية باللغة العربية لجميع المؤتمرات والدورات وحلقات العمل "الوِرش" والبرامج التدريبية المقدمة بلغات أجنبية، وجعلها متاحة أمام المتلقين والمهتمين؛ لتحقيق الاستفادة الكبرى من النتاج الإنساني في شتى القطاعات. - التركيز على التجارب العملية الناجحة وتعميمها؛ ليستفيد منها أكبر قدر ممكن من شرائح المجتمع. - وأخيراً.. لابد من تنفيذٍ أمثلَ لرؤية قطر المتعلقة بدعم اللغة العربية وربطها بالـهُوية الوطنية، يشترك فيه خبراءُ ومختصون يحللون الواقع المجتمعي للغة العربية، ويقيِّمون أهم الجهود المقدمة من جميع القطاعات، ثم يقدمون "إستراتيجية" شاملة تضطلع بتعزيز هذه الجهود والاستفادة منها على نطاق واسع؛ لدمج المتشابه وتقويته اختزالاً للكُلفة والوقت، وتأميناً للجهود من الضياع والتلاشي، وتلافياً للتكرار وعدم الاتساق.