17 سبتمبر 2025

تسجيل

ثورات العرب والاتجاه المعاكس

30 مارس 2011

كان ظهور السي إن إن (العام 1982) ثورة إعلامية جذرية في تاريخ الإعلام الحديث منذ ظهرت أول صحيفة إخبارية. فمع "السي إن إن" أصبح الخبر متداولاً على مدار الأربع والعشرين ساعة. تتخلل نشراتها الإخبارية المتنوعة (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وفنيا ورياضيا وطقسياً) برامج متابعات ولقاءات ومحاورات.. وكان برنامج Crossfire الحواري الجدلي أكثر برامجها مشاهدة. لكن أوقف بثه العام 2005. وقيل في تبرير إيقافه أن الإعلام الحديث في المجتمعات الديموقراطية الراسخة تجاوز برامج الصراخ. في واقعنا العربي من حيث لا نتوقع ظهرت علينا "الجزيرة" قناة عربية إخبارية على مدار الساعة. فشدت إليها أنظار كل من التقطها. كانت نشرة أخبارها وبرامجها الحوارية انقلابا إعلامياً مدوياً وخروجاً جريئاً على أنماط تلفزات العرب الخشبية. شاع خبرها في مضارب المشاهدين العرب. عنوانه: ظهور قناة في فضاء إحداثيات الصحون اللاقطة، تخبر أخباراً وتعرض برامج لا يُصدق أنها ناطقة بالعربية. وسرعان ما صارت عنوان وحدة العرب في الفضاء الإعلامي المفتوح. كان ظهورها على المشاهد العربي مفاجأة صادمة خارج توقعات السياق الدوغمائي للإعلام العربي. والشاهد ما كان للإعلام العربي أن يخرج بهذه السرعة عن نمطيته البليدة المعتادة منذ شاعر القبيلة لو لم تحتضن قطر "الجزيرة" كظاهرة استثنائية في بلاد العرب المستقرة على قديمها. إطلاق "الجزيرة" من الدوحة. كانت مغامرة لأن "الجزيرة" لم تكن قناة فضائية عربية مضافة للفضاء الإعلامي السائد البائد وإنما زلزلة غير متوقعة بالمعنى الإيجابي. إذ صار الإعلام العربي برمته، عاما وشبه خاص، قبل "الجزيرة" شيئاً وبعدها شيئاً آخر. وكان "الاتجاه المعاكس" مركز جذب المشاهدين إلى الجزيرة، دون أن يخل ذلك بأهمية بقية برامجها. لكن الحق أن "الجزيرة" كانت لتخسر كثيراً من جرأتها لو لم تتضمن برامجها برنامج الاتجاه المعاكس. ولم يكن سر نجاح "الاتجاه المعاكس" أنه، فقط، أول برنامج تليفزيوني عربي مثير للجدل ومغيظ للحكام العرب إلى حد سحب السفراء من دولة قطر كما حدث على إثر إحدى حلقاته التي شاركت فيها العام 2000 حيث سحب القذافي سفيره من الدوحة كما سحب مني جنسيتي الليبية، وإنما لأنه، في العمق، أسس لثقافة لم تكن لتخطر على المشاهد العربي منذ التلفزيون العربي الأول (العراق: العام 1956 ـ عام مولدي!!) الذي تكاثرت فروعه: أرضية ثم فضائية، من الثقافة نفسها: ثقافة الرأي الأوحد للحاكم الأوحد، حتى ظهور "الجزيرة" في أواخر العام 1996 فكانت كأنها تخاطب المشاهد من مستقبل بعيد. وكان الاتجاه المعاكس علامتها المائزة. حتى أن شهرة "الجزيرة" المفاجئة ارتبطت به. إذ كان واجهة تعبيرها عن نهجها الإعلامي (الرأي والرأي الآخر) المعاكس لإعلام الرأي الواحد الذي هو رأي المتسلط الأوحد. شدني "الاتجاه المعاكس" إليه منذ أول حلقة شاهدتها. وما شدّني في الجوهر ليس المواضيع المثارة، على أهميتها، ولا الشخصيات المشاركة فقط وإنما إدارة جدل القضية المطروحة من طرف مقدمه، فيصل القاسم الذي أصبح عبر توالى حلقات برنامجه شخصية مألوفة ومحبوبة عند مشاهدي برنامجه المدمنين دون أن يصابوا بالتثاؤب. قد تخفت بعض حلقاته هنا وهناك بسبب الخيبة في بعض ضيوفه غالبا. لكنه على الأجمال ظل محافظا على حيويته الجدلية وإثارته لغضب الأنظمة الاستبدادية. فبسببه تعرضت القيادة القطرية للكثير من "وجع الرأس" السياسي من قبل الكثير من الطغاة العرب الذين لا يحتملون كلمة الحق. وبسببه وغيره من برامج "الجزيرة" وتقاريرها الجريئة تعرضت قطر ـ الدولة، وحتى أهلها الطيبون، لحملات تشويه إعلامي سفيهة. لكن "الجزيرة" بقت جزيرة الإعلام العربي الساعي لتوطيد حريته. وليستمر الاتجاه المعاكس في اتجاهه المعاكس. ومن هنا حاول الكثيرون من كتبة سلطان الطغاة العرب، أصحاب الأقلام المأجورة إدانة مُدير جدل "الاتجاه المعاكس" بوصفه "مرتزقا من صدام" أو "مخبراً سورياً" وحتى أنه "عميل للموساد". فضلا على وصف برنامجه بأنه "شو" لصراع ديكة وكباريه لسربيتيز الغوغائية السياسية. لكنهم لم ينجحوا في مهمتهم المنتدبين لها. إذ أستمر المشاهدون العرب في تلقي برنامجهم الجدلي المفضل طوال السنوات الأربعة عشرة الماضية. وفي رأي فإن حملات كتّاب وإعلامي أنظمة الاستبداد والفساد العربية المتواصلة لاغتيال شخصية فيصل القاسم شهادة له بما هو مثقف عضوي، بالمعني الإعلامي الحديث، دخل إلى بيوت العرب بروحه الحيوية وأسئلته المنهجية في إدارة الحوار بين متناقضين متنافرين كالسالب والموجب. يجتهد بصرامة ألا يكون له موقفاً شخصيا هنا أو هناك. إذ يحاول جدياً أن يكون هنا وهناك في الوقت نفسه. ودون أن أناقش درجة دقته في إحداث مثل هكذا توازن فإن غالبية مشاهديه يرونه دوماً في صف مناهضة الاستبداد والخنوع للسيد الأجنبي بدعوى "الاعتدال". وهو ما تعكسه استطلاعات البرنامج حول قضاياه المثارة. إن الجزيرة وصلت إلى المشاهد العربي محمولة على الاتجاه المعاكس. أي أن الجزيرة كانت في العمق اتجاها معاكساً للاتجاه الإعلام العربي الخشبي. وبهذا المعنى يصح القول إن استمرارية حيوية برامج الجزيرة لا بد أن ترتبط باستمرارية برامج تتبنى أسئلة الشارع العربي المقموعة كبرنامج "الاتجاه المعاكس". أما القول أنه برنامج صراخ ما عاد الإعلام الحديث يحتمله بدليل تخلي السي إن إن عن برنامجها الجدلي المعروف بـ Crossfire فإنه قول يخص المجتمع الأمريكي المشبع بحرية الرأي والرأي الآخر. لكننا في العالم العربي محتاجون للاتجاه المعاكس لعقود طويلة قادمة.. أو بتعبير صاحب البرنامج:"فليقولوا ما يشاءون عن برنامج الاتجاه المعاكس من أنه برنامج إثارة وصراع ديكة وغوغائية، لكنه دخل التاريخ على أنه أسّس لثقافة الحوار في العالم العربي بعد أن كنا في الماضي لا نستطيع أن نفتح أفواهنا إلا عند طبيب الأسنان. لكن بفضل الاتجاه المعاكس وغيره أصبحنا نفتح فمنا ونصرخ بأعلى أصواتنا. لقد كنا نصفي خلافاتنا في الماضي بالرصاص والبارود فأصبحنا نصفيها الآن بالصراخ وهذا تقدم رائع على طريق الديمقراطية. فبدلاً من سفك الدماء أصبحنا نسفك الكلمات في سياق الصراع في ما بيننا.".. [email protected]