16 سبتمبر 2025

تسجيل

إنهم أناسٌ يتطهرون

30 يناير 2020

قصص المصلحين مع المفسدين هي مشاهد من المعركة الأزلية بين الحق والباطل المفاهيم واحدة لا تتغير عبر الزمان أبرزها تصوير الباطل نفسه أنه الحق المبين الباطل يدرك أنه على غير هدى وأن معركته مع الحق خاسرة في نهاية المطاف إن جئت تقرأ في قصة النبي لوط عليه السلام مع قومه، ستذهلك مشاهد عديدة فيها، والذهول سيصل قمته حين تقرأ عن موقف قومه التعساء المنحلين، في معرض ردهم على لوط – عليه السلام – وهو يدعوهم إلى عدم مخالفة الفطرة السليمة، فكان موقفهم القاطع الواضح ودون أدنى تردد أو خشية أو حياء، هو الفصل بينهم وبين لوط ومن معه، وكان الفصل المطلوب هو نفيهم وإخراجهم من القرية. لماذا؟ لأنهم أناسٌ يتطهرون!! لم يختلف قوم لوط عن الأقوام السابقين. كانوا على نفس النهج والفهم وإن بصور وأساليب متنوعة، لكن النتيجة واحدة. ألم يتهم قوم نوح نبيهم الكريم بالضلالة (إنا لنراك في ضلال مبين) وبالمنطق نفسه اتهم قوم عاد نبيهم هود – عليه السلام – بالسفاهة والكذب (إنا لنراك في سفاهةٍ وإنا لَنظُنك من الكاذبين). ثم يتكرر المشهد مع قوم فرعون وهم يحرضون الفرعون ضد نبي الله موسى – عليه السلام – ويتهمونه بالفساد في الأرض (أتذرُ موسى وقومَه ليُفسِدُوا في الأرضِ ويذَرَك وآلهتَك) حتى صار توافق بين مزاج الفرعون وقومه ضد موسى، فقال لهم منتشياً وهو يرى موقف قومه ودعمهم له ضد المفسدين، فقام وكأنما يطلب تفويضاً لمحاربة المفسدين – وهم هنا موسى وهارون ومن معهم - فقال (.. ذروني أقتل موسى وليدعُ ربَّه إني أخاف أن يُبدل دينَكم أو أن يُظهرَ في الأرضِ الفساد).. هكذا بكل سهولة يتم توجيه تهمة الإفساد إلى أعظم المصلحين في زمنهم، موسى عليه السلام. المشاهد نفسها تتكرر عبر التاريخ، وإن بأشكال وأناس مختلفين، وثقافات مختلفة.. لكن العجيب أن المفاهيم واحدة، لا تتغير عبر الزمان والمكان، أبرزها تصوير الباطل نفسه على أنه الحق المبين، وتصوير المصلحين على أنهم المفسدون في الأرض وإن قالوا عنهم ( أناسٌ يتطهرون ) ! قد يقول قائل بأن خلالاً ربما أصابهم في التفكير وفهم الأمور أدى بهم إلى استنتاجات غير صحيحة. لكن المتأمل في قصصهم سيدرك من بعد دراسة وبحث، أنهم كانوا على درجة من الوعي كبيرة، وإدراك تام لأقوالهم وأفعالهم. فلم تكن تصدر عنهم تلك الأقاويل والأفاعيل عن سذاجة أو قلة علم وعدم فهم للأشياء والحوادث حولهم، بل كل مواقفهم تجاه الأنبياء والمصلحين من بعدهم، كانت عن قصد ووضوح رؤية. المعركة الأزلية كل قصص المصلحين مع المفسدين، إنما هي مشاهد من المعركة الأزلية بين الحق والباطل، منذ أن بدأت أولى المشاهد بين آدم عليه السلام وإبليس في الجنة، إلى أن انتقلت بعد ذلك إلى الأرض، لتستمر إلى يوم الناس هذا. الباطل دوماً وأبداً يدرك تمام الإدراك أنه على غير هدى، وأن معركته مع الحق خاسرة في نهاية المطاف، لكنه يعتبرها معركة ذات فصول عديدة، وكلما استطاع أن يكثر ويطيل من أمد تلك الفصول، كلما عاش فترة أطول وحافظ على مكاسبه لأمد أبعد. إنه يحاول بكل الطرق والأساليب، مستخدماً كل الأدوات الممكنة لأجل أن يحافظ على مكاسبه ونفوذه، وإن دفعته الأمور لتشويه الحق وتصويره بأقبح الصور.. هي معركة بقاء ومعركة صلاحيات ونفوذ. أخرجوهم من قريتكم إنهم أُناسٌ يتطهَّرون.. هكذا تبلغ الجرأة بعد حين من الوقت عند الباطل، ليعتبر المكان مكانه والقرية قريته والزمان زمانه، ومن يختلف معه يكون مصيره الطرد والنفي من قريته أو قمعه واعتقاله. أن تتنزه عن أفعال وسلوك الباطل بكل أنواعه، هو ذات التطهر الذي يقصده الباطل. هو يدرك أن ما عليه الحق وأهله، طهرٌ ونقاء وصواب، على عكس ما الباطل وأهله عليه. ولذلك تجدهما لا يبغيان ولا يمتزجان أبداً. ونتيجة لذلك، تجد مفهوم (أخرجوهم من قريتكم إنهم أُناسٌ يتطهَّرون) يتكرر بصور مختلفة، وخاصة حين يعلوا شأن الباطل ويكون القرار بيده، حتى وإن كان لحين من الدهر لا يطول غالباً. الإصلاح وتهمة التطهر من يحاول إصلاح فساد مالي أو إداري أو سلوكي أو غير ذلك من صور الفساد في أي مجتمع أو أي بيئة، فإن الباطل سيواجهه من فوره بتهمة التطهر. فالتطهر هو أن تسلك مسلكاً لا يعجب الباطل وأهله، فإن لم يتوقف الأمر عند ذاك الحد، سينتقل الباطل إلى خطوة ثانية أخيرة حاسمة هي تقرير عقوبة الإخراج من القرية بصورة وأخرى. لكن رغم هذه الوحشية في التعامل مع الحق وأهله، إلا أن الجميل في مشاهد معركة الحق مع الباطل، أن النتيجة في النهاية محسومة بوعد إلهي (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). أي أن هذا الباطل ذاهب لا يستمر. وقد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق – كما جاء في تفسير السعدي للآية - وأنه عند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك. ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته.. نسأل الله في الختام أن نرى الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ونرى الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، فإنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [email protected]