15 سبتمبر 2025
تسجيلمثلما يقول السادة الأطباء إن المضادات الحيوية ما تعطى إلا لمريض مصاب باحتقانات أو التهابات بكتيرية أصابت جسمه، كنوع من مساعدة الجهاز المناعي لمحاربة تلك البكتيريا وعودة العافية للجسم.. فإن الأمر كذلك يحدث للمجتمعات. احتقان أو التهاب يحتاج مضاداً حيوياً في الوقت المناسب. في حال احتقان المجتمع على شكل اضطرابات داخلية لأي سبب من الأسباب، وأبرزها قمع الحكومات وملاحقتها وتعذيبها للأفراد والكيانات في المجتمع.. يغدو المجتمع بحاجة ماسة لمضاد حيوي فاعل ولكن في الوقت المناسب.. لأن عدم التعامل الرشيد والواعي من قبل الحكومات مع حالات الاحتقان في المجتمع، قد يؤدي بها أن تصل إلى درجة خطرة قد لا تنفع معها أي مضادات حيوية ساعتئذ. ووجه الخطورة يكمن في ظهور نتائج ذلك الاحتقان في المجتمع، على شكل رد فعل مضاد للتعامل الرسمي غير السوي معها، وهو ما نسميه بالتطرف في الفكر والفعل وبصور شتى.. الإنسان منا وبحسب طبعه وفطرته التي خلقه الله عليها، هو إنسان هادئ مسالم يحب الخير والسلام ويكره العنف والشر. لكن مع ذلك لديه قابلية اللجوء للعنف بشكل عام، إذا تمت استثارته بشكل فيه إهانة لذاته وكرامته. إذ حين يتجه المرء إلى العنف مثلاً، فلأن هناك منشطات ومحفزات تدفعه وتحثه على انتهاج العنف واتخاذه وسيلة أخيرة لتحقيق ما بالنفس من طموحات مكبوتة، بغض النظر عن ماهية تلك الطموحات ومدى شرعيتها، وسواء اتفقنا معها أم اختلفنا. من هنا يمكن القول إن المرء يلجأ للعنف حين يجد الدوافع إليه وقد تكاثرت حوله، والحرمان هو أبرز تلك الدوافع أو المنشطات، سواء كان حرماناً اجتماعياً أم سياسياً أم اقتصادياً أم غيره. إن الحرمان الذي أعنيه هو ذاك الذي يجده الفرد من المجتمع، حين يمنع هذا المجتمع عنه الفرصة تلو الأخرى ليحقق مطامحه الشخصية الشريفة أو مكاسب معينة شريفة أيضاً، ويمنعه من لعب دور اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي في المجتمع لأي سبب من الأسباب، وتكون غير مبررة ومقنعة له. إن اجتهد في مجال عمله وأراد أن يستفيد ويتقدم اعتماداً على تلك الجهود، فسيجد عقبات كثيرة تحرمه من ذلك، وإن أراد أن يتكسب في مجال اقتصادي وبصورة شرعية شريفة، وجد من يمنعه من ذلك ويقطع عليه الطريق أو الطرق ويحاربه، وإن أراد التعبير عن رأي حول أخطاء أو انتهاكات خطيرة يمارسها أفراد أو مؤسسات، وجد الموانع والعقبات بل أكثر من ذلك وجد عقوبات، بل وعقوبات غليظة! كل تلك المظاهر تجتمع تحت مظلة واحدة، يمكن أن نسميها بمظلة الحرمان. وحين تتزايد المحتويات تحت تلك المظلة، تبدأ بالخروج عن مساحتها المحددة، وهذا الخروج عن المساحة المحددة يتمثل في التطرف أو العنف الذي نتحدث عنه ومظاهره عديدة. الفوضى إحداها، التعطيل أو التخريب أو الاعتداء على الأنفس، وغيرها كثير كثير.. وقد يمارس العنف فرد واحد أو العديد من الأفراد، الذين قد يجتمعون على نفس الأسباب، أو أن يكون لكل أحد منهم سببه الخاص، لكن جمعهم الحرمان! ◄ ما هو المضاد الحيوي المطلوب ؟ حين يتم تسفيه الرأي أو تجاهل الحقوق أو يتم تحقير الآخرين، فإن كل تلك المعاملات هي بمثابة وقود للتطرف السياسي مثلاً.. وحين يتم تجاهل متطلبات النفس البشرية الفطرية سواء من قبل المرأة للرجل مثلاً أو العكس فإنه يحدث التطرف في إشباع الغرائز، وحين يتم تسفيه المراهق وعدم الجلوس إليه من قبل والديه مثلاً والاستماع إلى ما بنفسه من مشاعر، فإنه يتطرف ويحطم التعليمات والأوامر الأسرية، وهكذا الحياة مليئة بالنماذج الشبيهة وكلنا يعرفها. ظهور التطرف كما رأينا، هو أمر طبيعي طالما أننا بشر نختلف عن بعضنا البعض، ومتقلبو الأمزجة والأهواء ولا نستقر على حال واحدة.. ومن هذا المفهوم أجد أنه في حالات نشوء تطرف ما في مجال معين مثلاً، فإنه لابد من تعامل ذكي وواع معه.. أغلب الحكومات - كمثال واحد فقط - والتي تتعامل اليوم مع قضايا الحريات والتعبير بقسوة وعنف وتسفيه للرأي، ماذا تتوقع أن تكون النتيجة نهاية الأمر؟ عنف مضاد، بل ربما يزيد ويتضاعف حتى يتحول إلى عملاق تصعب السيطرة عليه، وتبدأ تنفلت الأمور في المجتمع ليكتوي الجميع وبصور مختلفة بنتائج ذاك التعامل غير السوي وغير العاقل، من جانب الجهات الرسمية أو الحكومية أو الأمنية أو سمها ما شئت من الأسماء. لقد علمتنا الحياة بدروسها في هذا المجال الإنساني، أن خير الأدوات المستخدمة في التعامل مع هكذا نوعية من البشر، هي أداة الحوار ولا غيرها من أدوات.. فالحوار هو السبيل الأوحد والأمثل للتعامل مع أي حالة تطرف وفي أي مجال يكون.. إن الحوار هو الأداة الأسلم لتجنب كثير من المشكلات، بل هو المضاد الحيوي الذي ينفع لعلاج احتقانات والتهابات المجتمعات، وما الحاصل الآن في مواقع كثيرة من العالم العربي إلا نتيجة غياب أو تغييب واضح لهذا المضاد الحيوي، أو هذه الأداة المهمة الراقية في حياة البشر.. الأداة التي توصل العالم الغربي إلى أهميتها منذ أكثر من خمسين عاماً، حيث تجد شعوب الغرب اليوم أو الغالبية منهم لا تشعر بالقهر أو الحاجة إلى الخروج على الدولة، من أجل أبسط الحقوق كما الحاصل في المنطقة العربية على سبيل المثال لا الحصر.. كما أن ديننا هو دين المجادلة بالتي هي أحسن، ولا إكراه في الدين.. إنه الدين الذي يحترم أولي الألباب. الدين الذي يحترم الرأي ويحترم العقل ويحترم المشاعر. فكيف لبشر منتمين إليه يخالفونه بشكل فيه تطرف كبير لا يوصف؟ لهذا كله، تعلو أصوات مراكز الدراسات والأبحاث وما شابه، داعية المجتمعات والحكومات إلى إيلاء أهمية كبرى لمسألة العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ومنع الظلم، بدلاً من ملاحقة أو مضايقة المنادين بتلك الأمور، كيلا تتعقد وتتأزم الأمور أكثر فأكثر.. إنها الحكمة في التعامل مع الغير، وربما ضياع هذه الحكمة عند كثير من الحكومات والزعامات، سبب رئيسي لشيوع أشكال مختلفة من العنف، لم تكن لتحتاج سوى لقليل من الحكمة لتفاديها ومنع الخراب والدمار.. ولعل الأمثلة والشواهد من حولنا في هذا العالم، لاسيما العربي منه، أكثر من أن نحصيها ها هنا.