18 سبتمبر 2025

تسجيل

تركيا والعراق ومقولة "الفراغ الأمني"

29 أكتوبر 2011

أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما نهاية "الحقبة الأمريكية" المباشرة في العراق عندما حسم بشكل رسمي ما كان رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي أعلنه قبل حوالي الشهر من أن العراق لا يريد التمديد ولا التجديد لبقاء القوات الأمريكية على الأراضي العراقية بعد نهاية العام الحالي. وبذلك لا يبقى للأمريكيين في العراق من وجود مادي مباشر إلا ما تضمه السفارة الأمريكية في بغداد من موظفين يعدّ عددهم بالآلاف! وما يمكن من خبراء تتعاقد معهم الحكومة العراقية. إذن هي نهاية وجود احتلالي مباشر استمر ثماني سنوات عانى خلاله العراقيون الويلات والمصائب ومحصلة الضحايا لن تعرف بدقة قبل مرور وقت طويل. ناهيك عما تركه الاحتلال من عشرات بل مئات آلاف الجرحى والمعوقين والأرامل. غير أن ما تركه الاحتلال من تدمير للبنى الاجتماعية وتخريب لوحدة الأراضي وإثارة للحساسيات المذهبية كان عنوان تلك المرحلة. وفي المختصر كان إيقاظ الفتنة السنية – الشيعية ليس فقط في العراق بل في العالم الإسلامي من أخطر ما تركه الاحتلال الذي لا يميز سنيا عن شيعيا. تارة يقف مع هذا وطورا مع ذاك والمحصلة واحدة وهي ضمان المصالح الأمريكية المتجسدة في عنوانين باتا واضحين لكل مراقب وإنسان عادي وهي تفتيت إضافي للعالم العربي والإسلامي وخلق المزيد من "سايكس- بيكوات " جديدة فتسهل السيطرة على ثروات العرب والمسلمين وتزداد شروط الحماية لأمن إسرائيل. ولقد كان العراق مهما من هذه الناحية لتهيئة المناخ النفسي لحالات مماثلة في أماكن أخرى. فالنموذج العراقي التفتيتي كان مدخلا لقبول نفسي لتقسيم السودان وفصل جنوبه وثرواته عن شماله. والسودان يشكّل أيضا نموذجا لأية خطط غربية لتقسيم دول عربية يراها ضرورية لمصالحه وأمن إسرائيل. ومع أن انتهاء الوجود الأمريكي العسكري المباشر في العراق لا يجعل هذا البلد خارج التأثيرات الأمريكية، غير أن هذا يطرح العديد من التحديات الداخلية والخارجية التي تظهر ليس لشيء إلا لأن النظرة السائدة هي أن المجتمعات العربية لا "يضبطها" سوى إيقاع خارجي بالترغيب أو بالترهيب. وهذا برأيي يسيء إلى قدرات الأمة العربية والإسلامية في أن تحكم نفسها وتجد حلولا محلية لمشكلاتها خارج استدعاء الخارج واستدراج الاحتلالات. من هذه العناوين التي لا تهدف إلا لاستكمال المخططات الخارجية هي مقولة "الفراغ الأمني" الذي تركه الاحتلال. ومنطلق ذلك أن أي خلاف يتجدد في العراق حول قضايا حساسة لن يجد من يلجمه إلا قوة تدخل خارجية. أي أنه إذا وصل البحث عن حل لمشكلة كركوك إلى جدار مسدود فلا محالة من صدام عسكري بين العرب والأكراد وبين التركمان والأكراد. وفي هذا السياق يكثر الحديث في الغرب وفي تركيا عن أن الانسحاب الأمريكي النهائي من العراق سيدخل العراق نفسه في اهتزازات سيكون مدخلا لعودة تركيا إلى الساحة العراقية من النافذة العسكرية بعدما أخرجت من اللعبة على امتداد ثماني سنوات. وفي تركيا يوجد دائما من يحرّض على توريطها في المستنقع العراقي من خلال الإيهام أن دورا عسكريا تركيا ضاغطا فيه هو السبيل إلى تعزيز النفوذ التركي هناك. ويزداد مثل هذا الاعتقاد بعد التوتر الذي يسود علاقات تركيا مع العراق وإيران بسبب موقف الحكومة العراقية المؤيد للنظام في سوريا الذي تقف منه تركيا موقفا عدائيا. كذلك هناك من يروّج إلى أن استمرار تواجد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق كما استمرار التوتر في قضية كركوك سيكون ذريعة ذهبية لتركيا للعودة إلى الساحة العراقية من البوابة الكردية والتركمانية. لا تخلو كل هذه الإشارات والأقاويل من عناصر موجودة بالفعل على أرض الواقع. لكن الفرصة الأكبر ستكون أمام العراقيين أنفسهم بكل مكوّناتهم لكي يتعظوا من تجارب الانقسامات الداخلية ومن مخاطر وكلفة التدخلات الخارجية العسكرية ليتفقوا على عقد اجتماعي وسياسي جديد يقيهم شرائر الخارج ويثبتوا أنهم أبناء تلك الأرض التي أعطت العالم أولى حضاراته النوعية.