16 سبتمبر 2025
تسجيلتفتر فناجين قهوة الصباح المرة على طاولة المقهى الباريسي وسط جادة الشانزليزية حين نتقابل أنا وذلك المغترب العربي القديم في باريس والذي توحي ملامحه وهندامه اليومي المنسق بأنه ربما كان ذات يوم ذي شأن في بلادنا العربية؛ التي تخلت عن الملايين من رجالاتها وعقولها وعن كفاءتها؛ ليسيحوا في أرض الله لا تربطهم بأوطانهم سوى الذكريات والحنين وربما الألم على واقع بلدانهم، صاحبنا المهندم الأنيق بساعته السويسرية وجرافات بدله المنوعة يومياً يحضر كل صباح ليجلس على طاولته المعتادة يحمل معه ذكريات سنواته السبعين ورزما من صحف باريس الشهيرة مثل الليموند ولوفيغارو ليبدأ جولته العالمية اليومية من خلال سطور تلك الصحف وأخبارها دون أن ينبس ببنت شفة، إلا بعد أن ينهي ذلك التجوال الصحفي اليومي المتكرر ودون أن يبخل على من تتقاطع نظراته معهم بابتسامة، كانت هي مفتاح الحديث لي معه ذلك الصباح الماطر ليدعوني في اليوم التالي للجلوس معه على طاولته، ليبدأ بيننا بعدها حديث يومي يوثق بعضاً من حالة المغتربين ممن شحت عروبتهم عليهم بمجرد الانتماء إليها ربما لمجرد رأي أو موقف تمنوه ذات يوم لبلدانهم التي اختطفتها الأيدلوجيات والأفكار التي تستهدف استعمار العقول بعد أن كان الاستعمار حسب نموذجه الغربي يستهدف الأرض ومقدراتها وثقافة شعوبها، فجاء النموذج العربي ليستعمر الفكر وكل الحقوق، ويحيل الجموع إلى قطيع تسبح صباحا مساء باسم رعاتها. كان صديق المقهى فاراً من نظام الأسد وعاش طويلاً بعد هجرته بين الموانئ والمدن يقتات ذكريات المنافي والسجون بعد أن كان مسؤولاً ينتمي لتراب وطنه ويتبنى فكراً يمتعض تعميم المهانة بين الناس ومصادرة حقوقهم وفكرهم، صاحبنا هذا كان يمتنع عن التصفيق لحالات القمع وينتقد استضافات القسر والتأديب المعتادة لأبناء جلدته وكان شاهداً على مجازر نظام الأسد في مدينة حماة السورية في فبراير 1982م وفي جعبته الكثير مما يقال عن مشاهد الموت في تلك المدينة، يقول كنت أحمل رتبة لمهمة الإعلام العسكري فكان يرصد المشاهد ويوثقها، وبعد القبض عليه بتهمة تسريب صور المجزرة كاد أن يكون رقماً إضافياً للضحايا لولا بعض نفوذه وعلاقاته التي لفظته خارج الحدود. كان اللقاء بالرجل في صيف العام 2012م وكان يؤكد طوال الحديث معه أن الأسوأ قادم في الحالة السورية الحالية طالما ظلت الصحف لا تحمل لنا موقفاً عالمياً يؤدب النظام القمعي هناك والذي يرتكن على تاريخ أسود في ممارساته وعلاقاته مع قوى العالم على حساب شعبه وعموم مصالح الأمة وقضاياها. أيضاً يُحمل الرجل بعض الأنظمة العربية مسؤولية الاستسلام لابتزاز الأسد ونظامه بعد أن مارس عليهم دور الأسد واستغل الظروف اللبنانية وحروبها ليمرر على الجميع مخططاته بتمويلات عربية غضت الطرف عن ممارسته تحت غطاء قرارات الجامعة العربية. كان الحديث مع الرجل الأنيق يسخن مع وتيرة استرجاع الأحداث بينما فناجين قهوتنا تفتر أو تبرد برود أمتنا التي خذلتها قوى العالم ومؤسساته في معادلة عالمية صعبة لم تنتج سوى الكيماوي ليظل هو النسيم لربيع عربي مهزوم وترياق لكرامة الأبرياء.