18 سبتمبر 2025

تسجيل

هل ستتغير خرائط اتفاقيات سايكس بيكو

29 أغسطس 2014

لما أصبحت السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر عاجزة عن مواكبة التطورات العالمية، ولاسيَّما ثورة الحداثة الأوروبية، أخذت تتقلص أمام الغزو الأوروبي، وتتداعى نتيجة الظلم والطغيان والنهب الداخلي، وتقدم التنازلات السياسية والاقتصادية للدول الاستعمارية الأوروبية، بسبب الضعف أمام الهجمة الاستعمارية الغازية.ظَلَّ التدهور يتفاقم حتى حدث الانقلاب الذي قام به رجال حزب «تركيا الفتاة» الدستوريين سنة 1908، الذين سعوا للتخلص من التدخلات المتعدد الأشكال للدول الأوروبية مضافة إليها الولايات المتحدة، لكن من طريق مركزية سلطوية أدت إلى بروز حركة استقلالية عربية مستعدة لتقبل الدعم من الأوروبيين.شكلت الحرب العالمية الأولى التي أعدتها الدول الاستعمارية التقليدية لاقتسام العالم العربي وأراضي الدولة العثمانية في نوفمبر 1914 أول تفكك وتجزئة وضعف للأمتين العربية والإسلامية، رغم أن العثمانيين دخلوا الحرب وهم يطمحون إلى التحرر من الهيمنة الأوروبية والقضاء على النزعات الاستقلالية المحلية. وابتداء من سنة 1915 تعرضت النخب السياسية العربية للقمع (شنق ونفي إلى الأناضول).كان متنورو العرب جزءا من هذا الاتجاه الدستوري بكل تناقضاته الذي كان يطالب بإصلاحات حقيقة داخل السلطنة. وكانوا يضمون رجال دين، وخريجي جامعات وتجاراً، ومؤيدين من مختلف فئات الشعب. وكانت الدعوة إصلاحية عموما في البدء، رافقها حديث عن العرب، ودور العرب. ثم أخذت تتطور، فنما اتجاه قومي عربي، يؤكد وجود أمة عربية، ويطالب بوحدتها، واتجاه إصلاحي علماني، يدعو إلى تبني أفكار الثورة الديمقراطية الأوروبية، ويطالب بحركة تغيير واسعة في المجتمع، واتجاه ديني إصلاحي، يدعو إلى التحرر من الخرافات، وإقامة الشورى، وفتح الطريق أمام التطور.. واتحدت هذه الاتجاهات، رغم تناقضاتها، في سبيل فرض اللامركزية، وانتزاع بعض حقوق العرب، ومنها أن تكون اللغة العربية رسمية في الولايات العربية، وأن يكون للعرب ممثلوهم في السلطة التشريعية والتنفيذية، وأن تكون للولايات العربية حصتها من ميزانية الدولة إلخ...وكان ممثلو العرب يريدون استمرار السلطنة العثمانية، لتظل قوة أمام المدّ الإمبريالي الأوروبي، وانتزاع الموافقة على مطالبهم المتواضعة. ولكن طبيعة السلطنة قبل الدستور وبعده لم تسمح بتحولات مهمة، مما قاد إلى اتجاه اللامركزيين سنة 1916 إلى التحالف مع الشريف حسين وبالتالي مع الإنجليز، على أمل أن ينالوا بعض حقوقهم.وقد راهن بعض الرومنطيقيين في القاهرة وأشهرهم ت. اي. لورنس الذي سيعرف لاحقا بلورنس العرب، على نهضة عربية تقوم على الأصالة البدوية وتمثل بديلا من الفساد العثماني والمشرقية الفرنكوفونية. وفي طبيعة الحال يقبل هؤلاء البدو تحت قيادة أبناء الشريف حسين من الهاشميين الوصاية البريطانية «العطوفة» إذ« فرنسا المشرق »إلى المناطق الداخلية وإقامة «سوريا الكبرى» الناطقة بالفرنسية والمؤيدة لفرنسا وتحت وصايتها.انضمت الحركة القومية العربية إلى الحلفاء، خلال الحرب العالمية الأولى. وأملت قياداتها، بعد الحرب، الاستقلال السياسي، ونوعاً من الوحدة للمشرق العربي. ولكن مراهناتها خابت،لأن الانجليز والفرنسيين الذين كانت لهم مصلحة في أن يخوض العرب الحرب ضد الأتراك، كانت لهم مصلحة أكبر في أن يستعمر العالم العربي كله. فعقدت اتفاقية سايكس بيكو السرية سنة 1916، وهي السنة التي أعلن فيها الشريف حسين ثورته.وفي مطلع العام 1917، بدأ البريطانيون السيطرة الصعبة على فلسطين وفي أبريل من العام عينه، استخدم سايكس الحركة الصهيونية في هذا الاتجاه مما أفضى إلى وعد بلفور بتاريخ 2 نوفمبر 1917، الذي أعلن قيام وطن قومي يهودي في فلسطين. وارتكزت الخطة البريطانية على احتلال الأرض من خلال تشجيع الثورة العربية على التوسع في اتجاه سوريا (وليس فلسطين) وعلى سلسلة من التصريحات الرسمية المؤيدة لحق تقرير المصير. فحق تقرير المصير يعني بالنسبة إلى لندن اختيار الرعاية البريطانية، وعندما رفض الوطنيون العرب هذه الهيمنة أعطوا صفة "المشرقيين" المهينة والتي يتشاطرونها مع العناصر المؤيدة لفرنسا. وما أن انتهت الحرب، حتى تنكر الإنجليز لعهودهم، وفرضت حدود التجزئة الجديدة، ونفي الشريف حسين، وطُورِدَ رجالات الحركة القومية، وعم الاحتلال أجزاء العالم العربي الذي كان ولايات عثمانية، بدأ عهد جديد.لم يكن تقسيم الشرق الأوسط دولاً عدة أمرا مرفوضا في المطلق، فالهاشميون كانوا ينوون الإقدام على هذا التقسيم منذ البداية لصالح أبناء الشريف حسين. لكنه حصل ضد إرادة الشعوب ومن طريق خطاب ليبرالي أفرغه استخدام القوة من مضمونه.ورغم مرور ما يقارب قرن من اتفاقية سايكس بيكو، فإن العرب لا يزالون حتى الآن يعيشون تحت وطأة كارثة التجزئة التي حرص الغرب الاستعماري على تكريسها، وكان الكيان الصهيوني الذي زرعه(الغرب) في قلب الأمة العربية والإسلامية الضامن الوحيد لتثبيتها، وهذا بالضبط ما أدركه السلطان عبدالحميد الثاني عندما دفع ملكه ثمناً للمؤامرة الغربية الصهيونية، التي حيكت ضده بعد رفضه كل الإغراءات التي قدمت إليه، مقابل موافقته على هجرة اليهود وإقامة كيانهم الغاصب في فلسطين. لقد عاد شبح سايكس بيكو جديد أو إعادة تقسيم الشرق الأوسط من جديد، المفروض من الخارج للظهور بشكل متواتر مع الغزو الأمريكي للعراق في مارس سنة 2003. فالادعاء الأمريكي بالتفوق الأخلاقي القائم على تطبيق الديمقراطية والليبرالية يظهر كمخاتلة مشؤومة. ذلك أن الديمقراطية المصدرة بوساطة الحرب تعكس النتائج الأسوأ لخيارات مرحلة 1916 ــ 1920 المتجددة باستمرار، من خلال إعادة طرح إدارة الرئيس السابق جورج بوش مشروع «الشرق الأوسط الكبير» بوصفه الموجة الثالثة لتيار الشرق أوسطية المعاصرة في الصياغة الأمريكية والتي أعقبت الصياغة البريطانية لـ«الشرق الأدنى» وكلاهما مفهوم استعماري ينطلق من نزعة المركزية الغربية التي تحكمت فيها تصورات الإمبراطوريتين، وهي تصورات ارتبطت بالجغرافيا السياسية للإقليم العربي ودورها في الإستراتيجية العالمية السائدة آنذاك. فالشرق الأدنى كان مجرد طريق بريطانيا إلى الهند درة تاجها، وأهم مستعمراتها قاطبة، بينما كان الشرق الأوسط دوما هو المجال الحيوي للإستراتيجية الأمريكية وأحد محاور حركتها نحو العالمية. ففي الموجة الأولى لتيار الشرق أوسطية كان الطرح بقصد حصار الاتحاد السوفييتي في خمسينيات القرن العشرين بحلف الدفاع عن الشرق الأوسط، ثم حلف بغداد حيث ذاعت إستراتيجية ملء الفراغ التي تبنتها إدارة الرئيس ايزنهاور في مواجهة احتمالات التمدد الشيوعي في المنطقة العربية أساسا ثم الهلال الإسلامي المحيط بها وربما إفريقيا جنوب الصحراء في بطنها. وفي الموجة الثانية له كانت «الشرق أوسطية» طرحا شاملا وتبشيريا للانتقال بالعالم العربي وإسرائيل من عصر الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الاقتصادية بعد نهاية الحرب الباردة والتحالف العربي - الأمريكي ضد العراق بهدف تحرير الكويت وفي قلبه كان الهدف المركزي هو إدماج إسرائيل في المنطقة باعتبارها الوكيل الاستراتيجي الأساسي لها في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي وإعادة بناء التحالف الغربي. وهاهو الشرق الأوسط يستفيق من جديد بدوله الحديثة ظاهرة "داعش" التي كانوا يصفونها بـ"العصابات المسلحة"، وهي تعلن قيام دولة الخلافة في المناطق التي تسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، وهو ما يعني تدمير اتفاقيات سايكس بيكو التي قامت على أنقاضها الدول الحديثة التي استولدها الاستعمار الغربي، فاستفاقت إيران وتركيا، ومن بعدهما الإدارة الأمريكية والقيادة الروسية، على خطر جديد يهدد خريطة المنطقة بإعادة تقسيمها على أسس دينية ومذهبية وعرقية، بعد أن وصل انحدار ما كان يعرف في الأدب السياسي الحديث النظام الإقليمي العربي إلى مستوى الحضيض.