11 سبتمبر 2025

تسجيل

المصالحة أم محاكمة الثورة؟؟

29 يوليو 2015

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); لم يكد الرأي العام في تونس يهضم "حبّة" حالة الطوارئ التي قررتها الحكومة قبل بضعة أسابيع، حتى قدمت لهم رئاسة الجمهورية "مضادّاً حيوياً" من النوع القويّ، لهضم قرار "العفو والمصالحة"، الذي قدمه رئيس الجمهورية، السيد الباجي قايد السبسي إلى البرلمان في شكل مشروع قانون أساسي (أي من نوع خاص)، بغاية تطبيع وضع رجال الأعمال الفاسدين. يهدف نص القانون المقترح، إلى تمكين رجال الأعمال الفاسدين من استئناف نشاطهم مقابل "فتات" يقدمونه لخزينة الدولة في شكل ضريبة لا تتجاوز 5 بالمائة، ليس من حجم الأموال الموجودة، وإنما مما يمكن أن يصرح به المعنيون بهذا القانون من رجال أعمال مورطين في نهب المال العام على عهد النظام السابق.. أي إن نهب الأموال العامة على مقاس الفاسدين، واسترجاعها سيكون على هواهم (!). في غرفة الإنعاش الأخطر من كل ذلك، أن مادة هذا النص، لا تضعف هيئة الحقيقة والكرامة التي أنشئت لمحاسبة المفسدين والمورطين في التعذيب والاستبداد فحسب، إنما هي تلتف على قانون العدالة الانتقالية وعلى نصّ الدستور الذي تضمن خطوط المسار الكامل لهذه العدالة، بحيث تضع الهيئة بين قوسين، وتجعل العدالة الانتقالية مجرد تسويات حقوقية، ليس فيها محاسبة ولا تعويض للضحايا ولا للدولة، وتكون الأموال التي نهبت وهربت إلى بنوك غربية كثيرة، قد أعطيت "فيزا" للعودة إلى تونس من بوابة العفو والمصالحة، بجرّة قانون، يتضارب مبنى ومعنى مع الدستور.. والنتيجة الطبيعية لكل ذلك هي، أن الثورة التونسية التي قامت ضدّ الفساد والاستبداد، قد دخلت غرفة الإنعاش مع فرصة حياة لا تتجاوز 1% على أقصى درجات التفاؤل الممكنة. والحقيقة، أنه منذ صعود الحكومة الراهنة في نوفمبر 2014 بأغلبية حزب نداء تونس الذي ينتمي معظمه إلى المنظومة السياسية والمالية القديمة، اتخذت إجراءات وقرارات كثيرة تصبّ في خانة الانقلاب على الثورة والارتداد على استحقاقاتها، والتطبيع أو تمهيد الأجواء لعودة النظام القديم، بما يجعل كل التسريبات التي تحدثت عن اتفاق بين رجال ذلك النظام، والرئيس الحالي، على مساندته للوصول للحكم، مقابل تطبيع وضعهم الاجتماعي والسياسي والقانوني، أمرا دقيقا لم يعد ثمة شك فيه مطلقا. فقد كانت أول تصريحات رموز "العهد الجديد" من حزب نداء تونس، تؤشر إلى كمّ من المخاوف، في مقدمتها، ضرورة مراجعة قانون العدالة الانتقالية، وتركيبة هيئة الحقيقة والكرامة، ورفض رئاسة الجمهورية تمكين الهيئة من أرشيف المؤسسة الرئاسية، الذي هو من مشمولات الهيئة ومن صميم عملها، ونص قانون العفو والمصالحة على تشكيل هيئة موازية للمصالحة، في خطوة التفافية واضحة على الهيئة ومهمتها التي أقضت مضجع الحزب الأغلبي في الحكم، ويعدّ حلّها أحد شروط بعض الدول الراغبة في منح الدعم المالي لتونس، من فئة تلك التي ساندت الحزب الأغلبي (نداء تونس).. بالإضافة إلى محاصرة الحريات، والتضييق على المساجد، وغلق قنوات وإذاعات لا تتماهى مع هذا الحزب ورجاله. محاكمة مرحلة رئاسة الجمهورية، وفي تبرير لمشروع القانون الجديد، تتحدث عن ضرورته لتنشيط الاقتصاد واستعادة الاستثمار الداخلي والخارجي، وهو ما اعتبره المراقبون وأحزاب عديدة وجزء واسع من المجتمع المدني، أمرا مردودا على أصحابه.. ليس لأن الموضوع يتعلق بنكوص على الثورة ومآلاتها، والبناء الديمقراطي واستحقاقاته فقط، إنما لأن من الشروط التي طرحتها الدول الثماني الكبرى خلال اجتماعها بالرئيس الباجي قايد السبسي، هي محاربة الفساد والفاسدين الذين ثار الشعب التونسي ضدهم، لأن ذلك شرط أساسي لتوفير مناخ للاستثمار الخارجي، وبالتالي فأطروحة المصالحة من أجل الاستثمار وتفعيل الاقتصاد التونسي المتهاوي، لا تبدو مقنعة، وليست وجيهة بالقدر القادر على إقناع الرأي العام التونسي. فليس غريبا والحال تلك، أن "ينتفض" أحد أبرز رجالات الفقه الدستوري، الأستاذ قيس سعيّد، ليشير إلى أن "قانون العفو والمصالحة، لن ينسف مسار الانتقال الديمقراطي والثورة التونسية فحسب، إنما سيكون مدخلا لمحاكمة رجال الثورة وشبابها ومرحلة ما بعد 14 يناير 2011 برمتها". وهذا هو قلب الرحى في جميع ما يجري في تونس اليوم.. إذ لا يتعلق الأمر بتنشيط الاقتصاد أو بمجرد "التنفيس" على رجال أعمال فاسدين، ولكن بمسعى جدّي لـ"قلب الطاولة" على الجميع، بشكل يسمح باستئناف مرحلة اعتقد التونسيون أنها ولّت وانقضت وباتت جزءاً من التاريخ. المعركة اليوم في تونس، بين حلم العودة لنظام قديم بعناوين ديمقراطية وحقوقية مزخرفة لغويا، وبين رغبة المضي في بناء ديمقراطي تزداد القناعة يوما بعد يوم، أنه عملية قيصرية ومعقدة، يدرك رجال النظام القديم أنها ستنجح ولو بعد حين، لكنهم يحرصون على أن يكون نجاحها بمغصّات في الأمعاء والقلب والشرايين.