15 سبتمبر 2025

تسجيل

مسألة شرعية وبقاء الدولة الشرق أوسطية المعاصرة

29 مايو 2015

في ظل الزمن «الداعشي» تعيش الدولة الشرق أوسطية، لاسيَّما تلك التي وصلت فيها الحركة القومية العربية إلى السلطة، تحت تأثير ظاهرة تفجر الدولة الشمولية، والبنية القسرية وغير التوافقية، إذ تقوضت الدولة بعمق رأساً على عقب. ففي أثناء عدد من العقود رأت الحركات الجهادية المتشددة كثيراً في فرصها الإستراتيجية بالنسبة لعلاقة قوى غير مؤاتية دفعة واحدة يتسع إلى ما لا نهاية مجال الممكنات، فثمة تطلعات جديدة كانت محبوسة أو غير معبّر عنها برزت، منفذة في تجسيد مشروعات سياسية « الدولة الإسلامية »-«داعش». فالدول العربية الشرق أوسطية الجديدة وجدت نفسها إذن من جديد مرمى لتنازع مزدوج يُمارس من جهة باسم القوى الديمقراطية التي تطالب بإعادة بناء الدولة الوطنية، ومن جهة أخرى باسم «الدولة الإسلامية » أوسع. وبالتالي ثمة مشروعان يفضحان «الطابع الاصطناعي» واللاشرعية في الدولة الشرق أوسطية، يمزقانها بين خطر التجزئة وخطر الاتحاد في كيانات أوسع. ومن المعروف أن مشروع «الدولة الإسلامية » داعش، رغم إخفاقات عديدة في محاولات التوحيد لم يكف أبداً عن التسلط على عدد من الحركات الجهادية. ومن المفارقة أن الأقليات العرقية ـ الدينية تمثل اليوم أصلب المؤيدين لهذه الدول العربية التي أُنشئت على أنقاض أحلامها في تحقيق الوحدة العربية لأنها ترى في هذه البُنى، إذا ما استبعدت ذات مرة، أفضل حاجز في وجه أمواج تنظيم «الدولة الإسلامية »-«داعش» التي تدفع من الداخل أو من الخارج إلى إنشاء دولة أوسع. حتى العناصر الأقلية التي تعترض على الشكل الاتحادي للدولة وتكون على حدود الانفصالية كالزعماء الأكراد العراقيين وهم في حالة السلطة المستقلة ذاتيا، قد حرصوا دائماً على المعارضة سياسياً على انصهار الدولة بمثيلاتها أو جاراتها العربيات. ولا يزال الفكر السياسي العربي بكل تلاوينه لا يميز بين الفكر القومي، والأيديولوجية القومية، والأحزاب والحركات القومية التي تتبنى إيديولوجية قومية، والتي وصلت إلى السلطة، ويحمل مسؤولية وأزمة الأوضاع الراهنة المزرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية في العالم العربي إلى الفكر القومي العروبي الوحدوي، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعتبر أن الهزيمة التي منيت بها الأمة العربية هي هزيمة الفكر القومي. يقينا أن هزيمة الأمة العربية اليوم هي هزيمة تشمل الأفراد والجماعات، والطبقات، والأحزاب السياسية على اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية، والحركة القومية العربية لأنها لم تكن ديمقراطية، حيث يمثل إخفاقها وعجزها عن تحقيق أطروحاتها في الوحدة والنهضة العربية – على رغم التأييد الأدبي والسياسي للجماهير الشعبية العربية لها – إخفاقاً تاريخياً عادلاً. لكن الذي يتحمل وزر هذا الإخفاق التاريخي والهزيمة السياسية للأمة ليس الفكر القومي العروبي ولا المشروع القومي، وإنما الحركة القومية، الذي يعتبر انهيارها وهزيمتها هي ذاتها هزيمة المجتمع المدني وضموره، وتهميش الشعب، وإخراجه من السياسة، وتسيد الدولة الشرق أوسطية التسلطية، التي حطمت كل المبادئ والنماذج الثابتة في الوجدان الاجتماعي (الديمقراطية، الرابطة القومية، التنمية بشروطها الوطنية والقومية) إشباعاً لنزواتها وخدمة لذاتها.. فالدولة الشرق أوسطية إذن هي التي تتحمل وزر هذه الأوضاع لأنها أدارت ظهرها للإيديولوجية القومية ولايديولوجيا الإسلام فصنعت لنفسها أيديولوجيا منغلقة متأخرة أوصلت الأقطار إلى حالة البؤس. فهي لا تطيق الوضع الذي تصبح فيه ممارستها الخاطئة موضوعا للنقاش والجدل العلمي والوطني والقومي والديني البناء. الدولة الشرق أوسطية العربية التي تروج لها بعض التوصيفات أنها «الدولة القومية» أو «الدولة الوطنية الحديثة» هي حالة تعبر في الصورة العامة عن رهانات ورغبات أيديولوجية، أكثر مما تعبر عن حقائق واقع هذه الدولة القطرية ذاتها، التي تبقى نشأتها التاريخية مختلفة جذرياً عن السياق التاريخي – السياسي الذي نشأت فيه الدولة القومية الغربية، ولأنها أيضا ظلت بعيدة كل البعد عن الفتح البورجوازي الحديث. بل لأنها تجهل كلياً هذا الفتح البورجوازي المسمى بالحداثة السياسية والثقافية، التي تقوم على ركيزتين أساسيتين هما: الديمقراطية السياسية الحديثة، والعلمانية والعقلانية. فالمظهر الخارجي الحديث للدولة الشرق أوسطية العربية كان يخفي واقعاً داخلياً ذا بنية تقليدية ومتخلفة من حيث الجوهر، تهيمن فيها أيديولوجية تقليدية، لا تزال تنظر إلى السياسة باعتبارها شأنا من شؤون شخص الحاكم أو الزعيم أو القائد الملهم، الذي يستمد مبدأه وفعاليته من الواجهة المؤسسية لسلطة بيروقراطية الدولة، ونظام الحزب الواحد، وإيديولوجية بيروقراطية الدولة، التي تفهم وتمارس السياسة في بعدها التقني البراغماتي وترفض منطق الصراع الفكري، والجدل الثقافي والمعرفي، وتعمل على إخضاع تنظيمات المجتمع المدني لمنطق هيمنة أجهزة الدولة التسلطية. إن سيرورة تشكل الدولة الشرق أوسطية العربية الحديثة في علاقتها بالمجتمع المدني من جهة، وبالقوى الاجتماعية من جهة أخرى، لم تتم في نطاق القطيعة مع ميراث الدولة الكولونيالية التي تمثل الاستمرار التاريخي للدولة البيروقراطية الحديثة، التي ولدت في أعقاب الثورة الديمقراطية البورجوازية في الغرب من ناحية، مثلما لم تتم القطيعة مع الدولة السلطانية التي سادت العالم الإسلامي من ناحية أخرى. وهذه الدولة الشرق أوسطية العربية التي اضطلعت بتطبيق مشروعها التحديثي في نطاق علاقته بالمجتمع التقليدي الذي دمرت الرأسمالية الكولونيالية توازنه العرضي الذي كان سائداً، والذي وسم المجتمع العربي الكولونيالي بالتجزؤ والتذرر، والتباعد، والتنافر، بين مختلف أطرافه، قد خلقت بيروقراطيتها الحديثة ذات الطابع المركزي المهيمنة على هياكل ومؤسسات السياسة، والاقتـصاد، والمتغلغلة في بنى ومؤسسات المجتمع المدني الوليد، حيث أصبحت هذه الدولة القطرية التي توحدت مع جهازها وبيروقراطيتها الحديثة خارجة عن المجتمع المدني، ومنفصلة عنه. إن ظهور تنظيمات «القاعدة» و«داعش» يؤكد على الفشل التاريخي للدولة الشرق أوسطية نموذج الدولة والأيديولوجية القومية، وانتشار ظاهرة الشعبوية وانعدام تقاليد الحوار الديمقراطي في ظل تغييب كامل للديمقراطية من جانب الدولة التسلطية، التي حلّت سلطة الرئيس أو الزعيم أو القائد العام للحزب الواحد، أو الحزب الواحد في أعماق نفسية المجتمع العربي محل المذهب الواحد أو الدين الواحد، الذي لم يكن يسمح بما عداها، وانفصال الدولة القطرية عن المجتمع الذي هو أبرز مظهر من مظاهر الدولة الاستبدادية، والهزائم المتلاحقة التي منيت بها الأمة العربية، وإخفاق المشروع النهضوي العربي، شكلت جميعها الأرضية الخصبة، والأسباب الرئيسية للعودة الضخمة والصارخة للعامل الديني، والاستخدام الشديد السياسي والاجتماعي والثقافي لهذا الإرهاب من جانب الحركات الجهادية المتطرفة التي تطلق على نفسها اسم «الدولة الإسلامية» باعتبارها أحد إفرازات الهزيمة المذلة للدولة العربية أمام العدو القومي الأمريكي-الصهيوني من جهة، وأمام همجية الاستبداد من جانب الدولة التسلطية من جهة أخرى.