13 سبتمبر 2025

تسجيل

بين حب مصر والوطن ديانة أو علمنة

29 مايو 2013

إن لمصر فيضا من الحب يملأ الوجدان؛ فقد أكرمها الله بذكرها نصا وإشارة في القرآن الكريم، وريا ينزل من الجنان ليجري ماء النيل كما أخبرنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وتزوج منها خليل الله إبراهيم عليه السلام، وصارت هاجر أمًّا لأهل الإسلام ومن بركاتها نبع "ماء زمزم لما شرب له" إلى يوم الدين، ولصبرها ويقينها وسعيها شُرع السعي ركنا للحج والعمرة لنتذكر هاجر المصرية، وقد منَّ الله عليَّ بقراءة متأنية لكتاب متميز للعالم الأريب د. محمد بن موسى الشريف بعنوان: "فضائل مصر ومزايا أهلها" وقد جاءت فيه نصوص وفيرة في القرآن والسنة عن مصر وأهلها والأنبياء الذين ولدوا أو ماتوا أو مروا على مصر منهم سيدنا إبراهيم ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون ويوشع بن نون وأيوب وشعيب عليهم السلام، وكبار الصالحين والصالحات منهم السيدة هاجر وأم موسى ومارية وآسية وماشطة فرعون ومؤمن آل فرعون، كما أورد أسماء كثير من الصحابة الذين وفدوا على مصر، والتابعين وكبار علمائها، ولم يفته أن يتحدث عن قادة وأبطال مصر وزهادها وشعرائها وأدبائها وعلماء الطبيعة والحكماء والفلاسفة، وأورد من أقوال العلماء قديما وحديثا عن مصر، كما ذكر غيضا من فيض علماء مصر المعاصرين أمثال الرافعي، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وحسن البنا، وسيد قطب، والشيخ عبدالحميد كشك، وسميرة موسى (أول عالمة ذرة) ومحمود شاكر، ومحمود عبد الوهاب، ومن شعرائها شوقي وحافظ والبارودي وأحمد محرم ومحمود غنيم و.... حقا لقد لامس هذا الكتاب شغاف قلبي، وسويداء صدري، ولبنات عقلي، وذرات جسمي؛ لأنه يحدثني عن بلدي حبيبتي مصر التي أحببت أرضها وسماءها، ونيلها وبحارها، وأهلها وزوارها، وليلها ونهارها، و... وقد نعمت بطفولتي وشبابي بين ربوعها وتحركتُ لدعوة الله عز وجل بين مدنها وقراها، وكفورها وعِزبها، وشمالها وصعيدها، وشرقها وغربها، حتى أُخرجت قسرا من ظلم حكامها، ولما لقيني المذيع جمال الشاعر في شيكاغو في مؤتمر "الإسنا" سنة 2001م، وسألني عن شعوري بالخارج نحو مصر فقلت قول الشاعر: بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرام ولطالما تغنيتُ بقول شوقي: أنادي الرسم لو ملك الجوابا وأجزيه بدمعي لو أثابا وأتذكر قوله عندما عاد من المنفى إلى تراب مصر وأراد أن يسجد لله شاكرا عودته إليها، لكن دمعته سبقته إلى هذا التراب فصوَّر هذه الدمعة بقوله: سبقن مقبلات الترب عني وأديْن التحية والجوابا ولطالما أطلقتُ كلمات شوقي عبر دروسي وخطبي وبرامجي التلفزيونية إذ يقول: شَبابَ النيلِ إِنَّ لَكُم لَصَوتًا مُلَبًّى حينَ يُرفَعُ مُستَجابا فَهُزّوا العَرشَ بِالدَعَواتِ حَتّى يُخَفِّفَ عَن كِنانَتِهِ العَذابا أَمِن حَربِ البَسوسِ إِلى غَلاءٍ يَكادُ يُعيدُها سَبعًا صِعابا وَهَل في القَومِ يوسُفُ يَتَّقيها وَيُحسِنُ حِسبَةً وَيَرى صَوابا عِبادَكَ رَبِّ قَد جاعوا بِمِصرٍ أَنيلاً سُقتَ فيهِمُ أم سَرابا حَنانَكَ وَاهدِ لِلحُسنى تِجارًا بِها مَلَكوا المَرافِقَ وَالرِقابا ولما قامت الثورة نزلتُ بزوجتي وأولادي من أمريكا والبحرين، وخاطبت أمي رحمها الله في المطار قائلا: أماه لن آتي - كما تعودت - من المطار إلى حضنك الدافئ حتى نزيح عن أمنا الكبيرة مصر غاصبَها من هؤلاء المفسدين، فأزاحهم الله تعالى وكنا سجودا وقت صلاة المغرب متبتلين، وأسأل الله تعالى أن يحدث ما قاله سبحانه: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:45). وأريد في مقالي أن أستحث نوعين من أبناء مصر وأمتي أن يأخذ كلٌّ خطوة مغايرة لمواقفه السالفة: أولهما: الجماعات والتيارات الإسلامية وهي تحتاج إلى مزيد من تعميق الولاء للأوطان، وأن يكون تدريس الولاء للدين مرتبطا بترسيخ الولاء للوطن، وأن يوضع في المنهج دراسات عن تاريخ وفضائل كل بلد وأهله؛ لترسيخ هذا الولاء الفطري الذي يتأسس في الإنسان لكونه إنسانا خلقه الله يحب مسقط رأسه وأهله وعشيرته. ثانيهما: فريق العلمانيين الذين يجعلون الولاء للوطن بديلا عن الولاء للدين، وأحب أن أقول بحق إن هناك فارقا ضخما في الولاء للأوطان بين المنهج الإسلامي والعلماني، فأساس المواطنة في المنهج العلماني هو نظرية العقد الاجتماعي لـ "جان جاك روسو"، بينما الولاء في المنهج الإسلامي أساسه العقيدة والأخلاق، وواجب خلق الوفاء أن يظل عند الإنسان ولاء للأرض التي تسجد لله، ونبت على أرضها، وتحت سمائها، ونال الرعاية من أهلها، وإذا كان الولاء للوطن في المنهج العلماني بديلا عن الدين فإن الولاء للدين في المنهج الإسلامي يضاعف الولاء للوطن، وإذا كانت حدود المواطنة تنحصر في المنهج العلماني في القطر الذي يعيش فيه الإنسان، فإن المنهج الإسلامي يجمع بين وطنية الحنين للوطن الذي ولد فيه الإنسان مع وطنية العقيدة التي توقظ الانتماء لكل أرض عليها مسلم موَحد لله تعالى، ثم مواطنة عالمية تجعل المسلم يعيش في أية أرض بهذا الولاء المتعدد والمتدرج وفق هذه المنظومة الخماسية التالية: 1) الولاء لله تعالى عبادةً لقوله تعالى: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: من الآية 92). 2) الولاء للناس رعايةً لقوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج: من الآية77)، وقوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة: من الآية 83). 3) الولاء للوطن وللأرض عمارةً لقوله تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: من الآية 61)، وقوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) (الأعراف: من الآية 56). 4) الولاء للنظام والقانون طاعةً لقوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (هود: من الآية 112)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ) (النساء: من الآية59). 5) الولاء للسلطة تناصحا ومعاونةً لقوله صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصيحةُ قلنا: لمن؟ قال: للَّهِ ولكتابِهِ ولرسولِهِ ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتِهم"1، وقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: من الآية2). ويحكم الولاء في كل ذلك أن المرجعية العليا لله تعالى الذي خلق الإنسان والأوطان، وقد جاء منهاجه سبحانه لنصل إلى الأحسن والأفضل في المعاش والمعاد، لقوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9). وأحبُّ أن أذكر نماذج من هذا الغلو في الولاء العلماني المتخبط في بعض البلدان، منها مصر وألمانيا ولبنان: 1. كنتُ في السنة الرابعة في كلية دار العلوم سنة 1401هـ/ 1981م وبينما كنت عند أستاذي د.أحمد هيكل عميد الكلية في مكتبه، إذ دخل صحفي وبدأ حواره، وقال: عندي موضوع جديد ومثير وسوف يغير بنية المجتمع المصري كله وأريدك أن تكون فارسا لاستعراض هذا الموضوع في جريدتنا "الأخبار"، فقال له الدكتور: وما الموضوع؟ فقال: تميز المصري الذي جمع بين خاصيتين لم تؤت لغيره في العالم، وهما: إيمانه بالرب: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (طه: 14)، وإيمانه بأنه فرعون، حيث يؤمن في أعماقه بما قاله فرعون مصر: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات: من الآية 24)، وتصاعد غضبي فجأة لهذه الجهالة الفكرية، والحماقة السطحية.