16 سبتمبر 2025
تسجيلجدلية الاستقراء المتحفز للمستقبل لا تتكئ أبدا في غالبها على تنبؤات التنجيم والتكهن المقرون بطلاسم دارسة تقطعت جذوة أوراقها وطمس الوقت معالم أحبارها لتأكيد إسقاطها على واقع الناس ومستقبل حياتهم. بل هناك مناهج علمية وشواهد ملموسة مليئة بالثقة والواقعية يمكن من خلالها استشراف المستقبل وتحديد معالمه فيما لو استنبطت نتائج تلك المناهج بعقلانية صافية وحيادية مطلقة " فالشمس لا تغطى بغربال " كما في مختلف الثقافات العالمية بل تبرز الحقائق جلية دائما لكل ذي بصيرة يعنيه فهم ما حوله ليرسم به برنامج عمل لغده دون استهانة بالنتائج وما تفرضه سبل معالجتها. وهنا مكمن الخلل ومحفز الفوضى حيث التضاد في سلوكيات المجتمعات مابين الواقع والقرار وهو ما تكرس فعلا في واقعنا العربي وبدا بارزا مؤخرا حيث الاستهانة بالمؤشرات والظواهر الملموسة واستبعاد مراس العامة وثقافتهم من إمكانية التأثير على مجريات النخبة وأبراجهم العالية. لن أشط بكم كثيرا بالتنظير اللفظي بل أسوق لكم تجربة عايشتها عن قرب حينما كنت أحضر المنتدى الرابع للشباب العربي الذي التأم لأطروحاته مئات من الشباب العربي في مكتبة الإسكندرية في بدايات العام 2009م وتضمنت محاوره الحديث حول هوية الشباب العربي وكيف تتشكل ثقافتهم في عصر العولمة وأدواتها من " فيس بوك ويوتيوب " والتحديات الرقمية المتنوعة التي تغذي ثقافة جيل الشباب والعربي خاصة والمتكئة على موروث قيمي غزير وعزيز أيضا. فقد ذهبت إلى الإسكندرية في موسمها البارد آنذاك أحمل قراءة باردة! أيضا عن أطروحات ذلك المنتدى الساخن الذي بددت نقاشاته برودة الأجواء وحملت الحضور إلى موقع المواجهة مباشرة مع ملامح التغيير القادم في جيوسياسية المنطقة وأدواته المتاحة بين أنامل الجيل الذي صنع التغيير فعلا كما نعيش اليوم في واقعنا العربي حيث الثورات المتتالية وإصرار الشعوب على استجلاب " الربيع العربي " حتى ولو لم تفرضه قوى الهيمنة العالمية وسطوتها. فالواقع الملموس الآن هنا وهناك في عواصمنا العربية لم يكن كهانة أو نبوءة واثقة بل قدمه البعض من الشباب الحضور كنتيجة حتمية للكثير من الشواهد الملازمة لواقعنا فقد تحدثت وجوه "شابة يافعة عن ذلك دون أن تحمل سوى رؤيتها الذاتية بعيدا عن الألقاب الأكاديمية والاملاءات السياسية ودسائس الأعداء " تحدثوا خلف ميكرفونات المنتدى ومنصة الجلسات وأحيانا في ردهات المكتبة وأمسيات التجمع في معسكر أبي قير فقالوا إن التغيير قادم دون أن يحددوا تاريخه أو شكله أو مكانه سوى أن الأدوات كانت مهيأة لفهم عربي جديد للواقع ولطبيعة الحقوق المطلوبة التي تعدت الرغبة في وظيفة هنا أو في مستوى المعيشة المتميز لفلان دون الآخر فقد كانت ليالي الإسكندرية صاخبة آنذاك بصوت أمواج المتوسط وأحلام الواقع التي حملوها إلى منتداهم في المكتبة من كل أقطار العرب فلم يخططوا خلسة لواقع اليوم بل أعلنوه كنتيجة عملية للممارسات المتضادة مع هوية الجيل وأدواته وظلت نتائج هذا المنتدى وغيره من المنتديات والأصوات عصية على الفهم أو حتى مجرد الاستماع لها في غرف القرار فهو " مؤتمر والسلام " وكأنما أحبط الساسة العرب من اجتماعاتهم ومؤتمراتهم المتكررة التي فقدوا الثقة فيها وظلت تحسب فقط كسياحة سياسية لهم هنا أو هناك مع صيغ متكررة في بياناتها الختامية المليئة بمفردات الشجب والتنديد ودون أن تحمل فعلا يحسب للتاريخ. وخلاصة ما يمكن قوله هنا إن العرب لا يزالون يملكون الطاقة والقدرة على فهم الواقع والمستقبل أيضا كما أن جيل الشباب قادر على استيعاب ما حوله وقادر أيضا على صياغة مستقبله وهو ما يفرض الالتفاتة العملية من صناع القرار لاستثمار هذه الطاقات ولتعديل الكثير من المسارات وفق هذا الواقع قبل أن يمضي الوقت نحو ما لا يستحب للأمة. أعود بكم إلى قراءتي لأطروحات المنتدى والتي نعتها أنفا بالباردة فقد اجتهدت في رص الأرقام بطريقة إعلامية لأفتخر فقط بكم المستخدمين الكبير بيننا للإنترنت وأدواته وأفتخر أيضا بحجم قدرتنا على حجب المواقع الموبوءة والتأكيد على ضرورة الحجب واستمراريته دون أن أتبين حقيقة لما يمكن أن تفعله حتى الصفحات المتاحة من بلورة فهم جديد يستطيع أن يغير ما لم تغيره الحروب والثورات، فذاك جهلي بينما شبابنا العربي بالتأكيد قد تجاوز رصد الأفعال إلى الأفعال ذاتها والكبيرة منها تحديدا تلك التي تغير مجرى التاريخ وترسم للمستقبل ملامح جديدة[email protected]