18 سبتمبر 2025

تسجيل

اللعب مع الكبار.. مقومات وفنيات

29 أبريل 2024

لابد وأن يكون لأي طموح إستراتيجي لأي دولة من دول «الهامش» الدولي، أبعد من الارتباط بروسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية لا في المدى البعيد، ولا حتى في المديين القريب أو المتوسط. إن التفكير في اللعب مع الكبار بدون مقومات، مخاطرة أعيت كثيرا من الدول، بل أعيت تجمعات إقليمية عملاقة بحجم دول مثل مجموعة دول عدم الانحياز – 120 دولة - وانتهت تجربتها إلى شبه زوال إن لم يكن فشلا ماثلا. فلعبة التوازن بين القوتين الدوليتين تلزمها مواصفات معينة؛ فالدولة الهادفة إلى اللعب بدون مخاطر في هذا الحيز البرمودي عليها أن تكون في موقع قوة فكرية، حيث يمكنها التأثير في علاقات القوة. وأن تكون لديها حرية الحركة وغير مرتبطة بأي من الأطراف المتصارعة ارتباطا يحد من حركتها على المستوى الإقليمي على الأقل. ولعل هدف صيانة الأمن القومي لأي دولة تبدو تائهة في بحر الترسانات العسكرية شرقا وغربا، هو الداعي للبحث عن وسائل وأدوات غير القوة العسكرية لإحداث التوازن ومنع طغيان الآخر. فعند ظهور الدولة القومية إلى الوجود لأول مرة بمفهومها الجيوسياسي المعاصر، كان الأمن القومي متعلقا بحدودها الجغرافية وغالبا ما كانت تلك الحدود حدودا طبيعية، كالجبال والبحار والصحاري والغابات. بيد أن هذا المفهوم تطور مع تشابك مصالح الدول وتقاطعها وعبورها للحدود، ليغدو المجال الأمني للدول متسعا ويزيد مداه باطراد. ولهذا برزت مصطلحات مثل الاحتواء والردع والتوازن في سياق مقاربات الأمن القومي للدول. ولعل الانتشار الكثيف للأسلحة والتطور النوعي الذي شهده عالم اليوم، أدى إلى تعديلات في النظام الدفاعي للدول وكذلك ثوابتها التقليدية الموروثة. اليوم هناك مظاهر مفجعة من الدمار والبؤس والموت المجاني بسبب الحروب التي أصبحت تغطي معظم العالم ولا تكاد تستثني بقعة أو فجا عميقا؛ تتطاول الحروب وتنتشر رغم ثبات عبثيتها في تحقيق الأهداف السياسية لا سيما الأطماع في ثروات أوطان الآخرين. والذين لا يفتقرون إلى القوة العسكرية التي تزاحم الكبار وتحد من تغولهم وافترائهم، يجدون في لعبة توازن الأضداد في العلاقات الدولية موئلا وملاذا. غير أن هذا الخيار مرهون النجاح فيه بتوفر مقومات وتقنيات أساسية وضرورية. على أساس أن الترسانات النووية والأساطيل البحرية العسكرية وأسراب الطائرات المقاتلة لم تعد المعيار الوحيد لقوة تأثير دولة من الدول؛ فعبر القوة الناعمة تكتسب الدولة قوة معنوية تبدو جلية في تجسيد الأفكار والمبادئ والأخلاق وعبر دعم مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، الأمر الذي يفرض احترام الآخر. ويقصد بالقوة الناعمة كذلك توظيف أدوات الإقناع والاستمالة والابتعاد عن أساليب الضغط والترهيب في إدارة العلاقات الدولية؛ كأدوات الدبلوماسية العامة، وتوظيف الأبعاد الثقافية والتعليمية والإبداعية. وحتى الدول الكبرى لا تستغني عن القوة الناعمة وتلهث لهثا وراء امتلاك أسبابها، على سبيل المثال تحدث الرئيس الصيني في العام 2007 مؤكدا بأن الصين بحاجة إلى زيادة قوتها الناعمة. وليس سرا أن الدول المتقدمة عسكريا هي ذاتها التي تتصدر قائمة الدول الحائزة على القوى الناعمة، مثل الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان وفرنسا وسويسرا وأستراليا والسويد والدنمارك وكندا. إقليميا حوّل سلاح القوة الناعمة الذي تستخدمه إسرائيل عبر التطبيع دولا مطبعة إلى دول فاعلة في المجهود الحربي الإسرائيلي وكان هذا قمة النجاح الإسرائيلي في اختراق الأمن القومي العربي. اليوم إسرائيل موجودة بقوة في الحرب الدائرة في السودان الذي يمثل البوابة الجنوبية للوطن العربي عبر وكالائها ومنفذي أهدافها وسياساتها الخبيثة. لكن لحسن الحظ عندما تكون النوايا الحقيقية شريرة عادة وتستتر بأقنعة لإخفاء الشّر وتسوّق عبثا لخير لا وجود له، فإنه سرعان ما تتداعى تلك الأقنعة وتنجلي الحقيقة. في عالم اليوم العبثي تمثل المنظومة الغربية إمبراطورية ضخمة ومُلك عضودا يحكم العالم أو يحاول حكمه، لا سيما ذلك الذي تسميه هذه المنظومة بالعالم الثالث. وهذه المنطقة بالذات تحيط بها قوى إقليمية ذات تأثير سالب عليها إذا ما كانت هناك حالة عداء وتنافر، والعكس يكون صحيحا. غير أن كيانا واحدا لا تنطبق عليه هذه القاعدة وهو دولة الإحتلال الإسرائيلي في فلسطين، فلا مجال إلا وأن تصنف وبشكل إستراتيجي، عدوا يحذر مكره. لأنها في الأساس دولة مصطنعة تمثل رأس الرمح في استهداف المنطقة . إن ضرورات التزود بمقومات وفنيات بدائل القوة العسكرية وحتى مع توفرها، يبدو خيارا حتميا لا سيما مع الفشل الكبير الذي يطوق مجلس الأمن وكثير من أذرع الأمم المتحدة ظهر جليا في العقود الأخيرة حين أكدت معظم الدول في أكثر من مناسبة، أن الأمم المتحدة بشكل عام ومجلس الأمن الدولي تحديداً يمر بواحدة من أخطر الأزمات التي واجهته منذ إنشائه بعد إفراغه من مضمونه وانتزعت صلاحياته ومهامه الأصلية، في ظل هيمنة دول بعينها على القرار العالمي.