30 أكتوبر 2025

تسجيل

اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً

29 أبريل 2021

من هذا الذي يدعو الله أن ينصر دينه، ولا يدعو أن ينصره ولو كان في نصره انتصار للدين؟ من هذا الذي لا يرضى أن يحمده الناس ويذكروه ويمجدوه ويستفيضوا في مدحه، خلاف كل ما كان سائداً في زمانه حتى يوم الناس هذا؟. لا شك أنه شخص غير اعتيادي، أو لابد أنه خريج حقيقي من المدرسة المحمدية ذاتها، التي تخرج منها أبوبكر وعمر وعثمان وعلي والمقداد وخالد وسعد. أمر الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله، وكنوع من التشريف، أمر خطباء الجمعة أن يدعوا لأحد القادة البارزين في زمانه، بالصيغة التالية: "اللهم أصلح السلطان الملك العادل، العالم العامل الزاهد العابد الورع، المجاهد المرابط نور الدين وعدته، ركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزّها، وسيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محيي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين". لكن القائد ألغى ذلك كله، واكتفى بدعاء واحد هو: اللهم أصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي - رحمه الله - الذي قال عنه ابن الأثير: "طالعت السير، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريًا للعدل، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من مُلك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة. حين يحدثك أحد عن تحرير بيت المقدس من الصليبيين، فلابد أن تتذكر مع اسم صلاح الدين، اسم القائد الفذ، نور الدين محمود زنكي، الذي كان له الفضل بعد الله في إعداد وتربية وتهيئة صلاح الدين لمهمته التاريخية، التي كما لو يبدو أن الله خلقه لها، وهي تحرير بيت المقدس من دنس الصليبيين. صلاح الدين ثمرة نور الدين لو لم يذكر التاريخ لنور الدين زنكي سوى أنه حرر وخلص مصر من حكم الدولة العبيدية، ومساهمته الفعالة في تربية وإعداد صلاح الدين لأداء مهمته المستقبلية في فلسطين، لكفاه فخراً ومجداً أبد الدهر. مما يروى عنه، رحمه الله، وجاء في سيرته أنه كان شجاعاً مقداماً، يتقدم الجند وقت الهجوم، ويكون حاميهم وقت الشدة والهجوم المضاد. وقد حدث أن التقت قواته بالصليبيين في منطقة تسمى تل حارم بدمياط مصر، حيث كانوا يفوقونهم في العدد والعدة، فانفرد نور الدين تحت تل حارم، وسجد لربه عز وجل، وتضرع قائلاً: "يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك، "أيش فضول محمود في الوسط" - أي يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود - وواصل الدعاء: "اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً.. من هو محمود الكلب حتى يُنصر". هكذا كان الوضع متوتراً حتى رحل الإفرنج. وقيل بأن أحد العلماء المقربين من نور الدين زنكي، رأى ليلة رحيل الإفرنج في منامه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال له: أَعْلِمْ نور الدين أن الإفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال: يا رسول الله، ربما لا يصدقني، فاذكر لي علامة يعرفها، فقال: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت: يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى يُنصر". قام العالم من نومه مبهوتاً يبحث عن الملك، حتى وجده يصلي بالمسجد، فتعرض له فسأله عن أمره، فيقول: "أخبرته بقصة المنام وذكرتُ له العلامة، إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب، فقال نور الدين: اذكر العلامة كلها، وألح علي في ذلك، فقلتها، فبكى رحمه الله وصدق الرؤيا، فجاء الخبر بعد ذلك برحيل الإفرنج في تلك الليلة. هذه المكانة التاريخية وهذا الأثر والذكر التاريخي المحمود له، لم يأت من فراغ. فلقد تربى في بيئة صنعته صناعة لأن يكون قائداً فذاً تصلح الرعية بصلاحه، ويأمن الناس بوجوده. فمن أولى المهام التي قام بها بعد توليه الحكم، أن ألغى الضرائب أو المكوس التي كانت مفروضة على الناس، باعتبار أنها غير جائزة دون وجه حق أو حاجة فعلية تستدعي الدولة لفرضها. وبنى المدارس، ويقال إنه أول من بنى مدرسة تختص بعلوم الحديث، وقام بتقريب العلماء وطلب من الفقهاء عقد عدة جلسات فقهية في الأسبوع، وكان يحضرها بنفسه ويأمر الحرس بإزالة الحواجز وفتح المجال للعامة لحضور تلك المجالس. صاحب رؤية ورسالة كان نور الدين محمود منذ استلام الحكم وهو في الثلاثين، صاحب رؤية واضحة لا تشوبها شائبة. كان يدرك المطلوب منه تماماً أو المفترض أن يقوم به وهو يتولى شؤون المسلمين. كان يدرك أن مهمته الأساسية هي تحرير بيت المقدس من دنس وظلم الصليبيين، وتوفير الأمن والأمان للمسلمين في حدود إمارته والمساهمة في توسيع نطاق ذلك الأمن لتشمل مناطق أوسع من بلاد المسلمين. لم يكن يحارب الصليبيين على أنهم نصارى، بل لأنهم غرباء عن بلاد المسلمين، جاءوا إليها لاحتلالها وتدنيس مقدساتها ونهب خيراتها، بدليل أنه لم يمس أحداً من أهل الكتاب في إمارته، لا من اليهود ولا النصارى، بل اعتبرهم، كما في المصادر التاريخية، مواطنين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولم يُعرف عنه أنه آذى راهباً أو قسيساً أو مس دور عبادتهم. كانت العقبة الكبيرة لحياة آمنة مطمئنة للمسلمين كامنة في وجود الصليبيين الغزاة المحتلين لبيت المقدس، أو هكذا كانت الصورة واضحة في ذهن نور الدين، فكانت بالتالي حياته مكرسة لإعداد ما يلزم لإزالة تلك العقبة، سواء كانت على يديه أم غيره، باعتبار أن الأهم عنده هو العمل والمساهمة بشكل صحيح وممنهج لتحقيق ذلك الهدف، أما النتائج فلن يحاسبه الله عليها ولن يكون مسؤولاً عنها، طالما أدى المطلوب منه بما يرضي الله سبحانه. وهذا ما حدث فعلياً، وساهمت تربيته وإعداده للقائد صلاح الدين الأيوبي، في تحقيق رؤيته وما كان يسعى إليه في حياته، وبذلك خلده التاريخ وكتب له ولصلاح الدين المجد والشرف. هكذا تأمن وتنعم وتصلح الرعية بصلاح ولاتها وقادتها، وإقامة العدل ومنع الظلم. وإن نور الدين زنكي وصلاح الدين ومن قبلهما الفاروق وأبو بكر وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم، إنما هم نماذج من كثيرين في هذه الأمة، ممن حياتهم تستحق أن تكون دروساً وعبراً وأمثلة للاقتداء والدراسة والتأمل، من بعد أن دخلوا دائرة من المجد رفيعة عالية دون سعي منهم، بل جاءهم المجد يبحث عنهم. وعلى خطى أولئك العظام نقتدي وندعـو. [email protected]