29 أكتوبر 2025
تسجيلإن أكثر ما يمكن أن يضر أي مسؤول، رئيساً للحكومة كان أم وزيراً أم مديراً عاماً، هي تلك الفئة المتسلقة التي تعيش وفق منهج ما يمكن أن نسميه منهج " نعم طال عمرك" وخلاصته قبول كل ما يصدر عن المسؤول الكبير ولو كان عديم جدوى أو منفعة.. هذه الفئة تنتشر أينما حللت ووجهت نظرك إليه في عالمنا العربي الكبير، وإن كان لا يعني عدم وجود الفئة ذاتها في أقطار أخرى من العالم.. لكن ما يهمنا هو عالمنا العربي، الذي تنتشر فيه تلك الفئة والتي تعلم يقيناً بان بقاء أسلوب حياتها التي هم عليه وبالامتيازات التي يعيشون عليها، تتطلب منهم ضرورة اتباع ذاك المنهج، ولو كان على حساب الأغلبية من شعوبهم، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة دون أي نقاش أو أدنى شك. أنظر إلى من حول " الكبار" من الرؤساء والوزراء والمديرين في أي موقع عربي تريده دون استثناءات، ستجد على الفور نماذج من تلك الفئة، حيث سيماهم في وجوههم من أثر النفاق وطمس الحق وتجميل الباطل. تراهم مباشرة بالقلب أو البصيرة قبل البصر، لا يمكن أن تخطئهم العين أبداً. فمواقعهم حول كبير القوم، وطرائق تعاملهم معه تدلك فوراً عليهم دون كثير جهد أو عناء البحث في اكـتـشافهم.. ونشرات الأخبار العربية الرسمية فرصة للتدرب على كيفية اكتشاف أعضاء فئة " نعم طال عمرك أو نعم يا أفـندم أو نعم سيدي " أو غيرها من كلمات ومصطلحات منتشرة على امتداد الوطن العربي الكبير، وإن اختلفت في الحروف إلا أنها جميعاً اتفقت في المضمون والنظام الأساسي للفئة أو الحزب إن جاز لنا الوصف والتعبير! ألا تـلاحظ أن أول عمل يقوم به أي كبير جديد، رئيساً كان أم وزيراً أم مديراً، هو التخلص من أعضاء ذلك الحزب، الذين ولاؤهم كان للكبير القديم، واستدعاء أعضاء جدد، سيتعلمون بعد حين من الدهر قليلا كيف يسيرون وفق المنهج نفسه، أو ربما هم من الحزب ذاته لكن يحدث تغيير للمواقع ليس أكثر، فهكذا تسير الأمور. لكن على الرغم أن أعضاء هذا الحزب يجلبون إلى الآخرين من مشكلات وتعطيل مصالح ومنافع عامة، إلا أن المشكلات لا تخطئهم هم أنفسهم أيضاً في بعض الأحيان، بل ربما تكون نتائج بعض أعمالهم شديدة الوقع على نفوسهم قبل أجسادهم، إلا من هو متمرس على النجاة بنفسه بفعل ذكائه وسرعة البديهة عنده.. فهؤلاء هم من ينجون عادة ويقدرون التكيف على الحياة مع الكبار!!. في تراثنا الكثير من تلك النماذج التي لا يخلو عصر منها كما أسلفنا.. فقد روي عن الخليفة العباسي المتوكل أنه خرج يوما إلى القنص، فرمى طائراً ولم يصبه وأخطأه، فقال أحد أعضاء حزب " نعم.. طال عمرك " ممن كانوا معه في الرحلة ويدعى ابن حمدان: لقد أحسنت يا سيدي! فقال له المتوكل: وكيف أحسنتُ وأنا لم أصبه؟! فقال ابن حمدان من فوره:" لقد أحسنت إلى الطائر يا سيدي ولم تلحق به أذى! في رواية أخرى عن الخليفة نفسه، أن رجلاً أدعى النبوة في أيامه، فلما أحضروه بين يديه، قال له المتوكل: فما الدليل على صحة نبوتك؟ فقال الرجل: القرآن العربي يشهد بنبوتي في قوله تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح) وأنا أسمي نصر الله!! فقال المتوكل: يأتي الأنبياء بالمعجزات، فما هي مـعجزتـك؟ قال الرجل: ائتوني بامرأة عاقر أنكحها، فـتـحبل بولد يتـكلم في المهد ويؤمن بي!! فقال المتوكل لوزيره الحسن بن عيسى، وكان أحد كبار حزب " نعم.. طال عمرك ": اعطه زوجـتـك حتى نبصر كرامـته ومعجـزتـه! فـقـال الوزير الذي كان سريـع البديهة: أما أنـا فأشـهـد أنه نبي الله وإنما يعطي زوجته من لا يؤمن به!! فضحك المتوكل وأعجبته سرعة البديهة لدى وزيره، وذكاء مدعي النبوة أيضا، وعفا عنه. الشاهد من حديثنا هذا أنه ليس أي أحد يقدر الانضمام لهذا الحزب، إلا بمواصفات ومؤهلات معينة يقدر بها نيل رضا الكبير وحبه، يتجاوز بها منعطفات خطرة قد يتعرض لها أثناء عمله معه.. ولولا تلك المؤهلات الخاصة، وكلنا يعرفها، لما استطاع الكثير من أعضاء هذا الحزب العالمي القديم، الاستمرار في أعمالهم لفترات طويلة، يتكسبون من ورائها الكثير ويحققون مرادهم في وقت قياسي قصير. الكبار من القوم، من سياسيين كانوا أم اقتصاديين أم تربويين أم إعلاميين أم غيرهم في مجالات العمل المختلفة، ما لم يتخلصوا من عقد حب التبجيل والتهليل والنفاق التي تصدر من أعضاء ذلك الحزب المتسلق نحوهم، فلن تستـقيم لهم الأمور، وإن بدت أنها كذلك ظاهرياً، لأن الحقائق غالباً تكون مغـيـبة وبسبب ذلك تضيع مصالح البلاد والعباد، سواء أعَلِم الكبار بذلك أم لم يعلموا.. ودروس التاريخ كثيرة، تنفع للعظة والاعتبار. ولعل أبرزها موقف هارون الرشيد الحازم من البرامكة، وما أدراك ما هم، بل قل ما أكثر أمثالهم اليوم، وما أقل أمثال الرشيد.