12 سبتمبر 2025
تسجيلمن الصعوبة بمكان الاعتقاد بأن الوضع العربي، بكل ملابساته وقضاياه، سيكون بعد (عاصفة الحزم) كما كان عليه من قبلها. بهذا المعنى، لن تُصبح العملية العسكرية، بدلالاتها السياسية الإقليمية والدولية، نقلةً استراتيجية فقط في المعادلات الخاصة بالمنطقة، بل وستبقى عنصراً جديداً رئيساً يجب أن يؤخذ، وسيؤخذ قطعاً، بجديةٍ بالغة في كل مايتعلق بتلك الحسابات من الآن فصاعداً.فبقراءةٍ شمولية، ثمة رسائل عديدة في غاية الحساسية تكمن في العملية المذكورة، وهي تتجاوز بكثير الواقع العسكري الميداني ونتائجه، على أهميتها البالغة. من تلك الرسائل:أولاً. وجود الإرادة الحازمة على اتخاذ أقوى القرارات، ذاتياً، حين تتطلب المصلحة العربية ذلك. إذ لم يبقَ الآن مجالٌ للانتظار والترقب لإمكانية و (وعود) تحقيق تلك المصلحة بناءً على ما (يتبقى) لها من (فكةٍ وصرف) في حسابات ودهاليز معادلات السياسية الدولية المتعلقة بالمنطقة وترتيباتها. وإنما باتَ مطلوباً وضعُ المصلحة العربية على الطاولة بكل قوة، ومن اللحظة الأولى إلى الأخيرة.ثانياً. توافر رؤيةٍ ترفعُ أفق وفلسفة ومستوى الفكر السياسي في المنطقة العربية إلى مستوىً آخر يتناسب مع الأخطار التي تتهددها. بمعنى، أنه لم يعد هناك مجالٌ لمحاصرة النفس في ثنائيات موهومة توحي بحتمية واقع الاستقطاب والمحاور والصراعات مَنطقاً للسياسة، وكل ماينتج عنها من فوضى وخلخلة في الأمن القومي.ثالثاً. وبناءً على ماسبق. القدرة على حشد أطراف عربية وإقليمية رئيسة على الأولويات الاستراتيجية، وإظهار إمكانية تجاوز أي خلافات في وجهات النظر حول قضايا أخرى. بحيث لم يعد بعد الآن ممكناً السكوت على الفوضى في ترتيب الأولويات. وبدلاً من ذلك، يمكن بالسياسة الخلاقة التعاملُ مع الأولويات جميعاً، وُفق جدولٍ دقيق، وبمعادلات محسوبة تَضمنُ توازناتها السعودية كقوةٍ إقليمية تبادر للقرار والفعل، مع إصرارها على مشاركة الجميع، في صناعة القرار وتنفيذه، بما يضمن المصلحة الجماعية. المؤشرات كثيرةٌ ومعبرة، وهي تتحدث عن نفسها، مثلاً، حين تُشجع العملية الرئيس التركي أردوغان على انتقادٍ علني غير مسبوق لأنشطة إيران في اليمن، منددا برغبة إيران في "الهيمنة" على المنطقة.وحسب وكالة أنباء الأناضول، قال أردوغان: "نحن ندعم تدخل المملكة السعودية في اليمن"، وأضاف "أن إيران تبذل جهودا للهيمنة على المنطقة، كيف يمكن التسامح مع ذلك؟" داعياً إيران إلى "سحب كافة قواتها من اليمن وسوريا والعراق". مع التأكيد أخيراً بأن "على إيران أن تغير عقليتها، الممارسات الإيرانية في المنطقة تجاوزت حدود الصبر". رابعاً. القدرة على تنزيل الرؤية السابقة بكل عناصرها في إطارٍ من التخطيط الاستراتيجي السياسي والعسكري والدبلوماسي والإعلامي. فرغم أن (عاصفة الحزم) بدأت فجأةً، كما هو يُفترضُ أن تكون، إلا أنه من الطبيعي أن التخطيط السياسي والعسكري والدبلوماسي والإعلامي لها بدأ منذ أسابيع. وهذه سِمةٌ أخرى لاتلغي، فقط، ماكان شائعاً من قدرة العرب على الكلام وعدم قدرتهم على الفعل، وإنما تعكس تلك القاعدة حين تُظهر كلاماً قليلاً دون شعارات ينتج عنه فعلٌ استراتيجيٌ كبيرٌ ومؤثر.بهذه الرؤية السياسية المُحكمة، ومقتضياتها العملية، وَصلت الرسائل، وستصلُ بشكلٍ مطرد إلى أصحاب العلاقة.أولاً، وقبل كل شيء، إلى إيران، التي يبدو أن غرور قوتها و(انتفاشَها) في المرحلة السابقة كان، في درجةٍ كبيرةٍ منه، عائداً إلى ضبابية الرؤية، وإلى اعتقادها باستحالة قدرة العرب، على الوصول إليها، بلهَ تنفيذها عملياً. من هنا، كانت استراتيجيتها الرئيسة تتمثل في اللعب على التناقضات والدخول من شقوق الخلخلة وتعميق الفوضى العربية واستغلالها.وهكذا، بدت، هي وأدواتها، مصابةً بدرجةٍ من الذهول من اليوم الأول للحملة العسكرية. وانحسرت الحملات العنترية لها، والتي كانت تتحدث بروح امبراطورية، إلى ردود أفعال تنحصر بين طلبات التهدئة وبعض التهديدات التقليدية، وصولاً إلى مهاترات وشتائم أوكلت للصبي الحوثي في اليمن، تُعبر بكاريكاتورية عن جزعه أكثر من أي شيءٍ آخر.ثم إن الرسالة وصلت إلى القوى الدولية ذات العلاقة، والتي يبدو أنها فهمت (الاختراقات) الإيرانية على أنها، من ناحية، دليل قوةٍ إقليمية حقيقية لإيران، ثم على أنها علامةٌ نهائية على خروج العرب من اللعبة، على أساس فقدانهم الكامل للقدرة على المبادرة. ويبدو هذا واضحاً في شيء من الارتباك المبكر لمواقف تلك القوى التي يبدو أنها أصيبت أيضاً بالمفاجأة بالموقف العملي الحاسم والحازم، قبل أن تتدارك الأمر وتستوعب تدريجياً طبيعة مايجري ودلالاته العملية والسياسية، وتتصرف بناءً على ذلك.ذكَرنا منذ أسبوعين في هذه الصفحة أن الملايين يحلمون في العالم العربي بصلاح الدين، لكنهم حين يستيقظون لايأملون بأكثر ممن يتعامل مع عالمهم بشيء من الحكمة والشجاعة. من هنا، فإن تلك الملايين من العرب لن تمانع أن يقودها من هو جدير بالقيادة. يقودها للحفاظ على حدٍ أدنى من الكرامة والأرض و الهوية. وأكدنا أنه إذا كان البعض حتى الآن لايشعرون، أو لايريدون أن يشعروا، إلى أين يمضي الواقع العربي في ظل ثلاثية الانكشاف والاستفراد والسوابق، فإن في العرب من يعرف تماما نهاية هذا الطريق. وبعد الحديث عن وجود (نافذة فرصة) في مشهد الفوضى العربية انفتحت في الرياض، فقد أكدنا أن الغد العربي، استقراراً أو فوضى، لن يكون إلا صدىً لخيارات الحاضر.. وأن الخيار لن يبقى مطروحاً إلى الأبد، مع التركيز على أن "قراراً بشأنه يجب أن يتم اليوم، قبل فوات الأوان".ثم جاءت (عاصفة الحزم). وربما يُعبر عن الوضع ماكتبه رئيس تحرير هذه الصحيفة منذ يومين حين قال: "منذ عقود والعرب تائهون، وأراضيهم تقضم منها قطعة قطعة، وعواصمهم تسقط بيد أعدائهم بين فترة وأخرى، حتى بات العدو في مأمن؛ حيث إن العرب ليس لديهم سوى الخطب الرنانة، فيما الفعل على الأرض هم بعيدون عنه، إلى أن جاءت "عاصفة الحزم"، التي نأمل أن تكون حزما وعزما وحسما، لتعيد للعرب هيبتهم ومكانتهم وحضورهم الفاعل في المشهد الدولي" .يبدو فعلاً أن (عاصفة الحزم) تغير قواعد المعادلة الإقليمية. فكل الشواهد تؤشر إلى ذلك، وشرطُ نجاحها هو الاستمرار بنفس الروح ونفس الحسابات، ونفس العزيمة والإصرار.