13 سبتمبر 2025
تسجيلالكلام عن الثقافة في العالم العربي يسوده دائما الطابع التشاؤمي والسلبي ولغة النقد والتناقضات والتحسر والبكاء على الأطلال. فالكثير يتكلم عن بؤس الثقافة العربية وعدم استثمار العرب في الصناعات الإعلامية والثقافية والتبعية والتقليد والاستهلاك السلبي. كما يتكلم النقاد عن ضعف الإنتاج الفكري والعلمي وضعف الجامعات العربية وعدم توفرها على مستلزمات وشروط الإبداع والابتكار العلمي. كما يرى آخرون أن العرب لا يولون أهمية للبحث العلمي وأن الموازنات المخصصة لهذا الغرض لا تكاد تذكر ولا تساوي ميزانية جامعة واحدة من الجامعات الراقية في الولايات المتحدة الأمريكية. فالكل يجمع أن العرب لا ينتجون ما يستهلكون ثقافيا وهناك ضعف كبير في الإنتاج الفكري والعلمي والثقافي وفي صناعة المعرفة، فالعرب لا يصنعون حتى ورق جرائدهم. كثيرا ما تتردد عبارة "العرب لا يقرأون" رغم أن أول آية نزلت على المصطفى عليه السلام هي آية تحث على القراءة. من الكلام الذي يتردد عن الفضاء الثقافي في العالم العربي، ضعف الصناعات الثقافية وشح مخرجاتها. أما الواقع الإعلامي، خاصة الفضائي منه- تشير الإحصاءات إلى وجود 1400 فضائية عربية- فهو كذلك يعاني من انتقادات لاذعة تتعلق بتبعيته وسطحيته وضعف خطابه. أما عن التعليم العالي فغالبا ما تتمحور النقاشات حول الفجوة بين الجامعة والمجتمع وغياب البحث العلمي وخير دليل على ذلك هو المراتب المتأخرة التي حازت عليها الجامعات العربية في التصنيف العالمي، حيث إن أول جامعة عربية جاءت في المرتبة 500. أما عن الإنتاج الفكري، فالعرب لا يساهمون إلا بما نسبته 1% من الإنتاج العالمي. ماذا تقول الإحصاءات الرسمية؟ وماذا تقول التقارير في هذا المجال؟ تأتينا تقارير من جهات عديدة ومختلفة من الحين إلى الآخر عن الإنتاج الفكري والعلمي للعرب وعن الصناعات الثقافية والأداء الإعلامي والتعليم الأساسي والتعليم العالي والبحث العلمي. في هذا المقال نقف عند تقرير مؤسسة الفكر العربي والموسوم "التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية" برعاية المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا ومركز الخليج للأبحاث. التقرير يعتبر حصاد عمل استمر أكثر من عام، أشرف عليه فريق عمل يضم أربعين باحثا وأخصائيا من مختلف الدول العربية. غطى تقرير مؤسسة الفكر العربي خمسة مجالات، هي: التعليم العالي، الإعلام، التأليف والنشر، الإنترنت والمدونات، وأخيرا الحصاد الثقافي. ففي مجال التعليم العالي يفيد التقرير أن نسبة الالتحاق بالتعليم الجامعي في العالم العربي لا تتجاوز 21.8% بينما نلاحظه في دول ككوريا الجنوبية 91% وأستراليا 72% وإسرائيل 58%. المؤشر الإيجابي في هذا السياق هو التحاق عنصر الإناث بالجامعة بنسب عالية، وصل في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى 76% ومملكة البحرين 68% ولبنان 62%. هذه النسب تتفوق على دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتركيا. أما بالنسبة لنسبة أعضاء هيئة التدريس للطلاب فجاءت النتائج مخيبة للآمال، حيث إن هناك عضو هيئة تدريس واحدا لكل 24 طالبا، بينما النسبة في اليابان هي أستاذ جامعي واحد لكل 8 طلاب، وأستاذ جامعي واحد لكل 13 طالبا في الولايات المتحدة الأمريكية. يشير التقرير كذلك إلى ارتفاع نسبة الطلاب الذين يقبلون على دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية. ففي جمهورية مصر العربية مثلا تبلغ النسبة 79%، وتعتبر هذه النسبة عالية بكل المقاييس، أما عواقبها على مسار التنمية المستدامة فتكون وخيمة لا محالة. في مجال الإنترنت والمدونات أفاد التقرير أن عدد المدونات العربية بلغ 490 ألفا وهذه النسبة لا تتجاوز 0.7% من مجموع المدونات في العالم. كما يشير التقرير إلى أن مصر تستحوذ لوحدها على 31% من مجموع المدونات العربية. أما عن المواقع العربية على شبكة الإنترنت فيشير التقرير حسب إحصاءات 2007، أن هناك 41 74.5 موقع أي بنسبة 0.026 من عدد المواقع العالمية. أما عن نسبة استخدام الإنترنت إلى عدد السكان على مستوى العالم العربي، فتأتي دولة الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الأولى بـ33% وقطر 26%، المملكة العربية السعودية 11%، الجزائر %10، مصر وسوريا 7% لكل منهما. والتحدي الذي نلاحظه في الإقبال على الإنترنت هو لأي غرض وما هي استخدامات هذه الوسيلة والإشباعات التي يريد تحقيقها المستخدم العربي. النتائج تقول في هذا الصدد إن البحث العلمي والمعرفة يأتيان في آخر الأولويات بعد الدردشة والموسيقى والبريد الإلكتروني. في مجال التأليف والنشر أنتج العرب في سنة 2007، 27.809 كتاب، بمعدل كتاب لـ12 ألف مواطن عربي، بينما النسبة في بريطانيا على سبيل المقارنة كتاب لكل 500 بريطاني، وكتاب لكل 600 أمريكي وكتاب لكل 900 ألماني. بالنسبة للإعلام الفضائي نلاحظ التزايد المذهل للقنوات الفضائية خلال العقد الأخير، إذ إن عددها وصل إلى 1400، وقد يزيد على هذا العدد في أي لحظة، لكن مشكلة الإعلام الفضائي العربي، ولو أنه أسهم في زيادة الروافد الإعلامية وزيادة المادة الإعلامية، إلا أن الكم طغى على الكيف، حيث انتشرت فضائيات الشعوذة و"الرسائل القصيرة" و"تلفزيون الواقع" و"ستار أكاديمي" وغيرها كثير من التوليفات الإعلامية التي قد تضر بالفضاء الثقافي العربي أكثر مما تفيده، بل إنها تساهم في تلويث الموروث الثقافي العربي الغني بأصالته ونوعيته وتنوعه وثرائه. هذه بعض الأرقام وبعض الإحصاءات عن مجال كبير وواسع وعن مجال حيوي وإستراتيجي لأي مجتمع ولأي بلد، السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو.. ما العمل وما هي الإستراتيجية وما هي الرؤية التي يجب أن يتخذها صانع القرار العربي حتى ينتقل العرب من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج ويصبحوا بذلك فاعلين في الفضاء الثقافي وليسوا مستقبلين؟. يجب على صانع القرار العربي في المجال العلمي والفكري والثقافي والمعرفي أن يعي أن مخرجات الثقافة والعلم والمعرفة هي أساس تنمية الإنسان المواطن العربي في بعده الفكري والاقتصادي والثقافي والمادي. فلا تنمية مستدامة من دون ثقافة وعلم، ولا تنمية اقتصادية من دون اقتصاد المعرفة وبدون بحث علمي وبدون جامعات نوعية متميزة وبدون مراكز بحث، فالتنمية الثقافية هي عماد وأساس مختلف أنواع التطور والنمو. ففي عصر العولمة، لا خيار أمام العرب سوى المساهمة في الفضاء الثقافي والعلمي والفكري والمعرفي العالمي حتى يكون لهم وجود وحتى يكوّنون صورة لنفسهم أمام العالم. صورة تعبر عنهم وعن ثقافتهم وموروثهم الثقافي والحضاري والديني والعلمي والفكري. فمن لا ثقافة له ولا صورة له بين الأمم، لا وجود له، وهذا يعني أن التحديات كبيرة في عالم لا يرحم ولا يشفق وفي عصر أصبحت الغلبة فيه لمن يتحكم في صناعة المعرفة وفي صناعة الصورة وفي صناعة الرأي العام.