13 سبتمبر 2025

تسجيل

جولة جديدة من الصخب السياسي

29 مارس 2013

الجدل الصاخب عند كل منعطف جديد من منعطفات المرحلة الانتقالية أصبح من خصائص العملية السياسية في مصر بعد الثورة. والجدل اليوم يدور حول تشكيل اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور ونسب تمثيل القوى السياسية المختلفة فيها. فرغم أنه منذ صدور الإعلان الدستوري وما تمخض عنه من جدول زمني لنقل السلطة عبر الانتخابات كان معلوما للكافة أن هذه الانتخابات إنما تكتسب أهميتها من كونها ستأتي بالنواب المنوط بهم صياغة الدستور، إلا أن معسكر الوصاية على الشعب المصري لم يشأ أن يفوت مناسبة تشكيل اللجنة التأسيسية من دون أن يثير ما اعتاد على إثارته من احتجاجات صاخبة واتهامات بالجملة للأغلبية المنتخبة. وقد شملت هذه الاتهامات قائمة طويلة ضمت تهما من قبيل الجمع بين السلطات، وعدم التوافق حول تشكيل اللجنة، ومعارضة الإعلان الدستوري، واحتكار الحديث باسم الشعب المصري، وخلو اللجنة المختارة من العناصر التي قامت على أكتافها الثورة المصرية، إلى غير ذلك من الاتهامات التي يفتقر معظمها إلى أي دلائل ملموسة. لقد كان واضحا لمعظم المصريين منذ تاريخ صدور الإعلان الدستوري أن المادة الخاصة بتنظيم تشكيل اللجنة التأسيسية يمكن أن تفسر وفق أحد احتمالين؛ الأول أن تنتخب بالكامل من بين أعضاء مجلسي الشعب والشورى، والثاني أن ينتخب أعضاؤها من البرلمان بغرفتيه بالإضافة إلى عدد من الشخصيات العامة من خارج البرلمان. ورغم انحياز نواب الأغلبية الإسلامية إلى التفسير الثاني، واختيارهم أن يأتي نصف أعضاء اللجنة من خارج البرلمان لضمان تحقيق التوازن بينه وبين والقوى غير الممثلة فيه، فإن معسكر الوصاية على الشعب قام بإثارة حالة من الصخب المبالغ فيه احتجاجا على هذا التشكيل. والغريب أن كثيرا ممن يعترضون على مشاركة نواب البرلمان في تشكيل اللجنة التأسيسية كانوا منذ شهور قليلة (وتحديدا في ذكرى قيام الثورة) يطالبون المجلس العسكري بالتخلي الفوري عن السلطة لصالح البرلمان. اليوم انعكس الحال، وصار نفس هذا البرلمان عدوا للثورة وعدوا لمدنية الدولة، وأصبحت مشاركة أعضائه في لجنة كتابة الدستور بمثابة خطر داهم على مستقبل البلاد وعلى طابعها المدني. أما الأغرب فهو أن فريقا آخر من المعارضين لتشكيل اللجنة التأسيسية كان على استعداد في وقت سابق لتمرير وثيقة المبادئ فوق الدستورية (المعروفة بوثيقة السلمي)، والتي وضعت على نحو فوقي يتجاهل جموع الجماهير المصرية. نفس هذا الفريق اليوم هو من يعتبر أن لجنة نصف أعضائها من خارج البرلمان ومن غير أصحاب التوجه الإسلامي (الذي يسبب لهؤلاء قدرا كبيرا من القلق) تمثل خطرا على مستقبل الدستور الجديد. وواقع الأمر أنه لا توجد طريقة أو نسبة يمكنها أن ترضي معسكر الوصاية على الشعب المصري، فحتى لو جاء اختيار اللجنة بنسبة مائة في المائة من خارج البرلمان فإن هذا لم يكن ليمنع المعترضين من الشكوى بأن الأغلبية البرلمانية قد انتخبت من يعتنق أفكارها أو يقترب منها أيديولوجيا، كما أنه لا يوجد سبب مقنع يدفع للتفكير بأن اختيار اللجنة التأسيسية بالانتخاب الشعبي المباشر كان سيفرز كيانا مختلفا في تشكيلته عن البرلمان بصورته التي هو عليها الآن، فالجماهير التي اختارت البرلمان وفقا لتركيبته الحالية كانت هي نفسها من كان سينتخب الجمعية التأسيسية. لا يبقى والحال كذلك إلا أن يقوم المجلس العسكري بنفسه بتشكيل مثل هذه اللجنة، فهل كان هذا سيمثل حلاً مقبولاً بالنسبة للمعترضين؟ إن من يحاولون التأكيد على أن ما حدث عند تشكيل اللجنة التأسيسية هو نكسة لعملية التحول الديمقراطي إنما يواصلون الحرب النفسية التي بدأوها منذ بداية المرحلة الانتقالية والتي ترمي إلى تشكيك المصريين في سلامة كافة تفضيلاتهم السياسية، فيما يتجاهلون أن العبرة الحقيقية تكمن في كفاءة أعضاء هذه اللجنة وفي قدرتهم على المشاركة بفاعلية في المناقشات التي ستصاحب صياغة مواد الدستور. كما يتجاهلون حقيقة أن الدستور الذي ستطرحه هذه اللجنة لن يتم إقراره إلا بعد عرضه على استفتاء شعبي، سيقرر بموجبه الشعب إما أن يعاقب تيار الأغلبية، أو أن يبارك ما صاغه من بنود. ولكن الأمر الخطير أن ممثلي معسكر الوصاية قد صرحوا في أكثر من مناسبة عن قناعتهم بأنهم يدركون مصلحة الوطن بأكثر مما يدركها الشعب المصري نفسه، ولهذا فإن نبرة الحديث التي يستخدمونها حاليا لم تعد ترفع شعارات الديمقراطية واحترام إرادة الشعب، بقدر ما تلح على أن الأغلبية ليست معصومة من الخطأ وأنها قد تتنكب الطريق المستقيم بحيث يتعين ألا تؤتمن على مصير البلاد. لقد كان مفهوما منذ البداية أن نواب الشعب في البرلمان المنتخب سوف يتمتعون بصلاحية انتخاب أعضاء اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور وأنه ستكون لهم الكلمة الفاصلة في تحديد طريقة تشكيلها، وعليه فإن حالة الصخب التي تثيرها النخبة العلمانية حاليا لا تفعل أكثر من أنها تؤكد استمرار هذه النخبة في نهجها القائم على استثمار أي منعطف لمحاولة إعادة المسار السياسي إلى المربع رقم صفر، كما تؤكد إصرارها على لعب دور الوصي على الشعب المصري بأكمله مع ما يتضمنه ذلك من إطاحة بأبسط قواعد الديمقراطية التي عادة ما يتشدق بها هؤلاء.