23 سبتمبر 2025

تسجيل

نظام دمشق وحسابات المصير

29 مارس 2012

ليس مؤكداً بعد أن روسيا والصين اقتربتا من الموقف الدولي الواضح حيال الأزمة السورية، كانت موسكو رحبت بحماس ملحوظ بتعيين كوفي أنان مبعوثاً دولياً-عربياً، ولذلك فعندما طلب الرجل إجماعاً في مجلس الأمن على دعمه في مهمته كان لابد للروس أن يليّنوا سلبيتهم بعض الشيء. ومع ذلك لم تثمر الجهود في استصدار قرار عن المجلس بل اكتفى ببيان رئاسي، أي بكلام يسجل ويوثق لكنه غير ملزم، كانت روسيا رفضت صيغة قرار تتضمن إنذاراً للنظام السوري إن هو لم يتعاون مع جهود أنان، ما يعني لاحقاً البحث في عقوبات دولية، وربما فتحا لأبواب التدخلات، وشرعنتها، رغم تأكيدات متكررة بأن دول الغرب لا تعتزم التدخل كما فعلت في ليبيا. واقعياً، وحده تدخل كهذا يمكن أن يحقق الهدف الذي يتوخاه الشعب السوري والمؤكد أن مثل هذا التدخل سيجر تداعيات تراوح بين الفوضى والحرب الأهلية وربما ارتدادات إقليمية، لذلك، بدا أخيراً أن "السيناريو اليمني" وفقاً للمبادرة الخليجية، المدعومة أمريكياً وأوروبياً، كفيل ببلورة حل وسط ووقف المحنة عند هذا الحد، إلا أن النظام لم يبد أي اهتمام بهذا السيناريو بعدما لوحت به القرارات الصادرة عن الجامعة العربية في الثاني والعشرين من يناير الماضي، وقد أدى موقفه هذا إلى دفع الجامعة إلى تدويل قراراتها، أما السؤال الذي طرح دائماً فهو: إذا كان النظام مطمئناً بفضل روسيا والصين، إلى أن التدخل العسكري الخارجي مستبعد، وإذا كان يرفض سيناريو نقل صلاحيات الرئيس إلى نائبه، وهو ما كانت موسكو أول من طرحه، فما الذي يريده إذن؟ الأرجح أن حتى روسيا لم تعد قادرة على تقدير موقف دمشق، خصوصا أن وزير خارجيتها سيرغي لافروف كرر خلال الأسبوع الماضي أن النظام ارتكب الكثير من الأخطاء التي عمقت الأزمة وزادتها تعقيداً، أما الصين فقد تكون تراقب الوضع لتعرف في أي لحظة عليها أن تنعطف، ولعل أكبر "الأخطاء" التي تشير إليها روسيا أن النظام لم يقدم ما يمكن أن يدعم بقاءه، إذا كان لا يزال يعتقد بأنه سيبقى، ثم أن الوضع الحالي، رغم صعوباته الشديدة، ربما يساعد موسكو على الدفاع عن فكرة بقاء النظام والترويج لحل سياسي من خلاله، لكن المزيد من الأخطاء سيعني بالضرورة أن الحليف الروسي سيضطر إلى تغيير جوهري في موقفه. لاشك أن النظام يريد أن يبقى، بل يعتقد أنه مادام متفوقاً عسكرياً على خصومه فإنه قادر على فرض حل سياسي بدأه بتعديل الدستور وإجراء استفتاء مفبرك عليه، وسيكمله بانتخابات تشريعية وفقاً لهذا الدستور لكنه يعلم تماماً أن المسألة لم تكن يوماً مسألة معادلة عسكرية إذا كان المخرج محكوماً بحل سياسي، وإنما هي مسألة تنازلات عليه أن يقدم عليها، وليس مؤكداً أنها ستساعده – وقد تأخر الآن في إظهارها – على أن يكون جزءاً رئيسيا من الحل، أما في حال اشتدت عليه الضغوط إذا تخلت عنه روسيا بشكل أو بآخر، فإنه سيكتفي بالحليف الأخير الذي سيبقى إلى جانبه، أي إيران وعندئذ قد يعمد إلى سيناريو "إشعال المنطقة"، الذي طالما لوح به الرئيس السوري علما بأنه لن يحقق له الهدف، أي بقاء النظام، بل سيكون وصفة كفيلة بإنهائه نهاية سيئة. على افتراض أن هذا "الإشعال" للمنطقة هو فعلاً الورقة التي لا يزال النظام يناور بها، فإلامَ يمكن أن تفضي، أو بالأحرى إلى أين يريد أن يصل بها؟ إذا بلغ نقطة اللاعودة هذه يكون قد حسم أمره بعدم تسليم النظام، وبدفع الدولة إلى الانهيار، بما فيها الجيش، أما النواة الصلبة للنظام فستنكفئ إلى المنطقة الساحلية وتعزز الدفاعات التي أقيمت أخيراً بغية جعلها أشبه بمنطقة حكم ذاتي، أو دويلة، أو اقليم فيدرالي، أو أي صيغة يمكن روسيا أن تضمن لها الحماية بذريعة درء المذابح والتارات عن طوائف الأقليات التي ستلجأ إلى تلك المنطقة. قد يبدو ذلك افتراضياً في اللحظة الراهنة، لكن أي تحليل استشرافي بمسار الأزمة لابد أن يضع مصير الأقليات على المحك، خصوصاً أن النظام بذل ويبذل كل جهد لاستخدامها في معركة بقائه، هذا لا يعني أن كل الأقليات معجبة بالنظام، إلا أن خياراتها خلال الأزمة ظلت ضئيلة، ثم أن الوحشية التي تعامل بها النظام مع الشارع الثائر عليه لا تنفك تدفع هذا الشارع إلى إفراز متطرفين يرون أن الوقت حان لكي يحسم المجتمع السوري أمره على طريقة "إما معنا وإما ضدنا"، من هنا فإن المجتمع الدولي يركز على مهمة كوفي أنان ويعتبرها الفرصة الأخيرة، فإذا استجاب النظام وتعاون معها ربما لا يزال هناك مجال لضبط المعارضين أو للضغط عليهم للانخراط في حل سياسي متوازن يحقق لهم معظم طموحاتهم ويحرم النظام من السطوة التي يمارس بها عدوانيته ضد الشعب. المشكلة التي ستواجه أي حل هي نفسها التي اختار النظام أن يواجهها بالقوة والقمع منذ اليوم الأول. فإذا أوقف القتل لن يتمكن من منع التظاهرات المليونية التي يخشاها بل يعتبرها أكثر فاعلية وتحدياً من هجمات العسكريين المنشقين، فالمعادلة المختلة بين استخدام العنف المفرط مقابل التظاهرات السلمية هي التي أغرقت النظام في لجّة الأزمة ولم يعد يستطيع الخروج ولا إخراج البلد منها، هذه هي المعضلة الكأداء التي سيصطدم بها المبعوث الدولي – العربي، لأن منطق الأحداث وديناميتها على الأرض تجاوزا مهمته حتى من قبل التفكير في تعيينه، بحيث بات صعباً إن لم يكن مستحيلاً تصور حل وسط، فأمام أنان معارضة مثخنة بالخسائر البشرية ولا يمكنها التراجع إلا إذا حصلت على ما يعوضها ويحقق التغيير الذي تنشده، وأمامه في المقابل نظام خسر فعليا شرعية بقائه بفضل القتل الذي ارتكبه بلا حساب للعواقب، وبالتالي عليه أن يدفع ثمناً معتبراً ليتسنى له أن يكون شريكاً في الحل. فحتى الذين يعتبرهم في صفه من بعثيين وأحزاب حليفة، فضلاً عن أقليات خائفة منه وعليه، باتوا جميعا يعرفون أن النظام لن يعود كما كان ولا في أي من السيناريوهات، بما فيها ذلك الذي يفترض إقامة إقليم ذاتي متمتع بضمانات أمنية دولية.