15 سبتمبر 2025
تسجيلعندما يرى البعض رجعة الحكم للسبسي في تونس وللعسكر في مصر، ويرى تمرد حفتر في ليبيا، ويرى سيطرة شيعة الحوثي على اليمن، ويرى استقواء تلك النظم التي كانت تداهن شعوبها على خوف من الثورات.. يتوهمون أن الأمة خسرت وأن الثورات انكفأت وربما تصير لديهم الرجعة لما قبل الثورات أملا لا يطمعون بأزيد منه.. * أما الحقيقة وبالنظر لما تعانيه الأمة من مشكلات وإلى حجم التحديات التي تواجهها وإلى شروط النهوض وصورة المستقبل الذي ينتظرها فإن ما أنجزته هذه الثورات حتى الآن يعتبر نصرا بكل المقاييس وفتحا مبينا.. وأقول: * مشكلة الأمة أنها أضاعت بوصلتها لأكثر من مائتي سنة قبل اليوم على الأقل، وانمسخت هويتها وذاتيتها، ففقدت التمييز بين الأعداء والأولياء، وانساحت داخل اتجاهات الآخرين، ونهبتها الطوائف والقوميات والأيديولوجيات المتعاكسة، وفقدت قرارها وتشوهت مواقفها، واحتل عدوها إرادتها، وقامت فيها نظم وظيفية مسيّرة ليس لها قيمة في ذاتها أو في شعوبها مملوءة بالهواجس ولا ترد يد لامس ولا تلم شعثا ولا تجمع كلمة ولا قرار لها في سلم ولا في حرب.. ودخل كل من هب ودب إلى وجدان الأمة وتثقيفها وتوجيهها من رويبضات تافهين ومن منافقين وفسدة وفسقة ومستبدين إلا من رحم الله.. * هذه المشكلات الحقيقية للأمة بالتالي فالتقدم العلمي ومحو الأمية التقنية ومعالجة النزوع للتطرف والإرهاب ومع أهمية كل ذلك فإن أولى أولويات الأمة وأساس شفائها هو أن تعيد اكتشاف ذاتها وأن تتمايز عن أعدائها، وأن تعرف أصدقائها وأعداءها على الحقيقة، وأن تعيد تقييم نظمها وحكامها، ثم توظف بعد ذلك إمكاناتها المعنوية والبشرية والاقتصادية والتاريخية في هذه المسيرة الطويلة التي تستلزم رؤية وجهدا وإمكانات وفسحة وقت.. * ذلك بالضبط هو ما باتت تتكفل به الثورات.. فالفارسية التي ركبت التمذهب الطائفي وأركبته على الثورة وعلى العدالة واستولت به على أدمغة الكثير من العوام وظلت تدغدغ به مشاعر العداء لأمريكا وإسرائيل.. ها هي الثورات تسقط كذب شعاراته وتبين طائفيته وتفضح تحالفه مع أمريكا وولاءه لحكام الاستبداد في المنطقة..* والقومية التي ظلت تجعجع بصوت المعركة الذي يعلو على أصوات الإصلاح والعدالة والنهضة وعلى الحريات والتي قادت فئاما من الناس بشعارات التحرير والوحدة وخدعت عروبيين وإسلاميين وأصفياء بمؤتمرات التنسيق القومي والإسلامي والقومي الإسلامي.. ها هي الثورات قد أبانت نفاقها وعوارها ودمويتها وخيانتها وانتهازيتها. * والليبرالية ودعاوى حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والديمقراطية والقانون الدولي والمؤسسات الدولية والشرعيات الدولية التي استجدت على ثقافة الأمة وأكلت كبدها ونهشت عقلها وضللت وخدعت بعض نخبتها وظن الظانون عدالتها وأن الصبغة الغربية التي ترقص على إيقاعاتها ستكون عند اللزوم ضمانة على أن لا تنحو للتعصب والاستبداد والصراعات الكيدية.. ها هي الثورات تكشف خيانتها وتفضح تخلفها ورجعيتها وعمالتها ثم خروجها عن الوطنية وعن الأخلاقية، وتبين ازدواجيتها وعنصريتها وأنها خلف لأسوأ سلف..* حتى داخل الحركات والاتجاهات الإسلامية التي ظلت تلوك كلمة الخلافة وتشاغب بها على منافسيها وأبناء جلدتها الفكرية والدينية.. أو الأخرى التي ظلت تدعي نصرة السنة واتباع السلف الصالح وأقامت منهجها على الصراعات والمجادلات وكأنها الموئل الأصفى والولاء الأوفى.. ها هي الثورات قد وضعتها حيث تلوذ بالصمت وها هي تبلع لسانها ويسقط اعتبارها وتقعد خلف الصفوف أو ينتهي بها المطاف إلى تأليه الحاكم قريبا من الذي فعله محمد بن درزي مع الحاكم الفاطمي ذات يوم..* وقل مثل ذلك عن نخب إعلامية وسياسية وعن المؤسسة الدينية الرسمية والقضائية وعن المؤسسة العسكرية وعن مشايخ (التوك شو) الذين كانوا يزعقون ليل نهار بالمثاليات والأخلاقيات والوطنيات.. ها هي الثورات تجرد حقيقة عبوديتهم لمصالحهم وارتزاقهم وصغارهم وخراب ضمائرهم.. * بالمجمل لقد وضعت الثورات العربية الأمة اليوم على سكة الوعي المؤهل للولاء الصحيح الموصل للنصر.. والله تعالى قد جعل ذلك – الوعي والممايزة - نعمة وحكمة يهبها لأوليائه الطيبين الذين ينصرهم على أعدائه الذي يهزمهم قال تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)، وقال تعالى (ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا).