12 سبتمبر 2025
تسجيللا تكمن أهمية استمرار الحراك الشعبي في مصر في أنه قادر على إنهاء الانقلاب فورا، أو إزالة كافة آثاره في خطوة واحدة، ولكن في أنه يرفع تكلفة استمراره ويؤكد أن ما حازه من "شرعية" خلال المرحلة الماضية عن طريق الاستفتاء على الدستور الجديد هو والعدم سواء. فالتحرك عبر خارطة الطريق التي فرضها الانقلابيون على المصريين لن يكسب نظامهم الشرعية التي يتمنونها طالما ظل الشارع على سخونته، الأمر الذي يضطر الانقلابيون إلى خلق عالمهم الموازي، الذي يتمتعون فيه بشرعية افتراضية، ويحرزون فيه إنجازات افتراضية ليس لها من الواقع نصيب. وعناصر هذا العالم الموازي متعددة، فلدينا "رئيس افتراضي"، منفصل تماما عن الواقع، ولا يكاد يعلق على أي مما يشهده من أعمال قتل واعتقال تتم بشكل يومي، وكأن الذين يسقطون ويعتقلون ليسوا من الشعب الذي هو مسؤول "نظريا" عن أمنه وسلامته. وعلى أية حال فإن الرئيس المؤقت قد أكد انتماءه للعالم الموازي منذ بداية تعيينه في منصبه، وذلك عندما صرح أن مصر تخلو تماما من المحاكمات العسكرية للمدنيين، في الوقت الذي حصرت فيه المنظمات الحقوقية 740 حالة لمدنيين حوكموا أمام المحاكم العسكرية عبر 49 واقعة منفصلة في عهده الذي لا يتعدى بضعة شهور.وهناك "الحكومة الافتراضية" التي تنتمي هي الأخرى إلى العالم الموازي ولا تمت للواقع الحقيقي بصلة، فهي غير معنية بتقديم حلول أو اتخاذ قرارات بشأن مشاكله اللهم إلا قرارات الاعتقال والحبس لمن ينتمون للمعارضة، والذين تريد منهم ألا يعكروا صفو استغراقها في أوهام عالمها الموازي. وقد تأكد للجميع أن هذه الحكومة لا تنتمي للواقع عندما تحدث رئيسها ذات مرة بكل ثقة عن الآثار الإيجابية التي سيجنيها المصريون من قيام إثيوبيا بإنشاء سد النهضة، هذا السد الذي يتوقع خبراء المياه أن يرتب آثارا كارثية على مصر حال اكتماله. كما أن نفس هذا الشخص القادم من عالم اللا منطق، هو من حاول تبرير مذابح فض اعتصامي رابعة والنهضة بمقارنتها بما قام به الأمريكان أثناء حروبهم مع أعدائهم في فيتنام وألمانيا النازية.وهناك الدستور المستفتى عليه مؤخرا، والذي سجل نسبة موافقة خرافية تنتمي أيضا للعالم الافتراضي الذي يصنعه الانقلاب. فرغم حالة الانقسام الظاهرة التي تسود بين المصريين، خرج علينا رئيس اللجنة العليا للانتخابات ليؤكد مشاركة أكثر من 38.6% من مجموع الناخبين، وموافقة 98.1% منهم على التعديلات التي تضمنها هذا الدستور، في الوقت الذي كانت فيه معظم لجان الاقتراع خاوية مقارنة بالاستحقاقات الانتخابية الماضية، ولكن في عالم الانقلاب الافتراضي تبدو كافة التناقضات ممكنة وواردة، طالما أنها تجد من يقبل بها ويصدقها.بل إن ميدان التحرير نفسه أصبح ميدان ثورة افتراضيا، فقد صار محجوزا لمؤيدي النظام العسكري، وتقبع على أطرافه دبابات الانقلاب ومدرعاته بالمرصاد لمن يحاول الاقتراب منه من القوى التي صنعت ثورة 25 يناير، بعد أن أصبح هؤلاء ضيوفا غير مرغوب في وجودهم في الميدان أو في الدولة بأكملها في حقيقة الأمر. وفي الذكرى الثالثة للثورة شهد الميدان احتفالات صاخبة ورقصا وغناءً وتوزيعا للهدايا على مؤيدي الانقلاب، في الوقت الذي كانت تجرى على أطرافه معارك بالذخيرة الحية بين المعارضين وقوات الأمن من الجيش والشرطة. حتى أصبح مظهر الميدان مظهرا عبثيا بامتياز، بما يؤكد أنه أصبح جزءا من عالم اللامعقول الذي يفرضه الانقلاب على المصريين.الإعلام أيضا أصبح إعلاما افتراضيا، فلم تعد وظيفته متطابقة مع اسمه، وإنما أصبح دوره هو حمل المصريين على الإذعان لنظام 3 يوليو، وكراهية المعارضة. ومؤخرا أضيفت مهمة أخرى إلى مهامه تمثلت في حشد المصريين باتجاه تأييد ترشيح قائد الانقلاب لمنصب الرئاسة، عبر تأكيد الصورة الذهنية بأنه هو الأمل الوحيد لإنقاذ البلاد من الفوضى وإعادة الاستقرار المفقود.ولكن هل التمادي في الاحتفاء بمظاهر العالم الموازي الذي صنعه الانقلاب يمكن أن يحوله إلى واقع حقيقي أم أنه يهدد بمفاقمة الانقسام في المجتمع. يبدو الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى التحقق. فالمظاهر الافتراضية لا يمكن أن تؤدي إلى واقع حقيقي مهما بالغ صانعوها في تأكيدها وفي محاولة ربطها بالواقع. وكون الانقلاب يشيد عالمه الخاص ويتوجه إلى شعبه الخاص ويخلع على كل من يعارضه صفات الإرهاب والتخريب والعمالة للخارج ويكدس بهم السجون والمعتقلات أو يملأ بهم المستشفيات، فإن هذا لن يغير من الواقع شيء؛ فمازال هناك "آخرون" موجودون على الأرض، يرفضون أن يذعنوا لمنطق القوة الباطشة، ويرفضون أن يصبحوا جزءا من عالم الانقلاب الموازي، أو أن يضفوا عليه شرعية الوجود. وفي الوقت نفسه فإنه مهما بلغ عدد مؤيدي الانقلاب، ممن قبلوا طواعية أن يكونوا جزءا عالمه الخاص فإنهم لا يمكنهم أن يجعلوا من الانقلاب أمرا طبيعيا. خاصة أن دور هؤلاء في أي تركيبة سياسية لا يتعدى المباركة والمبايعة، ولذا فإنهم يمكنهم أن يملأوا الميادين والصناديق عند اللزوم. ولكنهم لا يمكنهم أن يعطوا الانقلاب الشرعية الكاملة التي يبتغيها.المعركة إذن تتلخص في السؤال حول من يصنع الواقع الحقيقي، القوة أم الحق. هل القوة التي يمتلكها نظام 3 يوليو قادرة على أن تحول واقعه الافتراضي إلى حقيقة لا تقبل الجدل؟ أم أن المعارضة التي تمتلك الحق في العيش بحرية يمكنها أن تقف أمام قوة الانقلاب، وتفرض منطقها الذي ينازعها الآخرون بأنه لم يعد واقعيا؟