18 سبتمبر 2025

تسجيل

الناس على دين إعلامها !

28 ديسمبر 2017

قال ابن كثير- رحمه الله - في ترجمة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك في كتابه التاريخي، البداية والنهاية:" قالوا كانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل، فيقول: ماذا بنيت؟ ماذا عمّرت؟ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك. يلقى الرجل الرجل، فيقول: كم تزوجت؟ ماذا عندك من السراري؟ وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل، فيقول: كم وِرْدك؟ كم تقرأ كل يوم؟ ماذا صليت البارحة؟ والناس يقولون: الناس على دين ملوكهم. هكذا عرفنا عبارة "الناس على دين ملوكهم أو مليكهم". لكن الوضع اليوم تغير كثيراً، وتغيرت بالضرورة وبحسب ما نرى ونسمع، تلك المقولة لتتحول إلى أن الناس على دين إعلامهم أو إعلامها! فهل الناس كذلك ؟ لن نذهب بعيداً.. يكفينا الرجوع إلى سنوات سبع عجاف شداد من تاريخ هذه الأمة، لنجد منذ ثورات الربيع العربي، كيف أن الإعلام بوسائله المختلفة، كان هو اللاعب الأول والمسيطر الأوحد على الأحداث، والمؤثر على توجيهها وتحريكها يمنة ويسرة في أكثر من بقعة عربية، ابتداء من مراكش ومروراً بعواصم شمال إفريقيا والقاهرة وعواصم الشام والخليج، وانتهاء بصنعاء وعدن.. كل جهة تحاول فرض أجندتها بصورة وأخرى.   كنا نظن سابقاً في وقت من الأوقات، أن الجماهير كانت منقادة بشكل عميق لتوجهات وسائل الإعلام من صحافة وراديو وتلفزة، باعتبار أن الرسالة الإعلامية كانت من طرف واحد يرسل، وما على الطرف الآخر إلا الاستقبال ليس أكثر، وبالتالي كانت احتمالات التأثر بالرسائل الإعلامية كبيرة. لكن أن يستمر الوضع كما كان، بل للأسوأ وفي زمن الفضاء المفتوح والإنترنت، والتنوع الشديد والهائل لوسائل الإعلام والتواصل، فهذا أمر يحتاج لدراسات وبحوث في نفسية وأمزجة الجماهير وما يؤثر فيها وعليها.   لن نتوسع كثيراً في هذا الموضوع، ولنحاول اختزال المساحة الجغرافية من أجل اتخاذ إعلامها نموذجاً عملياً شاهداً على صحة المقولة الجديدة الحالية، من أن الناس على دين إعلامها.. ولنأخذ أزمة الخليج النشطة، كأبرز الأمثلة الحالية في الوطن العربي. منذ كذبة سكاي نيوز أبوظبي على قطر، والتي منها تفجرت وبدأت أزمة الخليج في 24 مايو الفارط ، والإعلام الخليجي، لا سيما إعلام دول الحصار، يحاول ومعه مساندون من كل حدب وصوب، أن يثبت للآخرين أنه الأصدق والأصوب، وأنه الأعلم بما لا يعلمه الآخرون. حيث بدأ هذا الإعلام في تسطير وكتابة أسوأ فصوله في تاريخ الإعلام بالمنطقة.. فصول من الردح والكذب والتشويه والتضليل والافتراء وغيرها من طرق وأساليب الخداع والحرب النفسية ضد قطر، وبما لا يدع أي مجال للشك أن تلك الفصول الإعلامية تأتي ضمن خطة مبرمجة وممنهجة، القصد منها التضليل بشكل عام، إلى جانب الرغبة في التأثير على معنويات وهمة القطريين، حكومة وشعبا.  ما إن مضى على الأزمة أسبوع أو أكثر بقليل، حتى بدأت تتكشف الأمور وتظهر الحقائق جلية واضحة، وبدأ الجمهور يعي ويفهم ما يدور وما تحاول القيام به وسائل الإعلام هنا وهناك، وبدأت تتهيأ الأرضيات بفعل ذلك الأمر لانقسام المجتمع الخليجي إلى أقرب ما يكون لمعسكرين. معسكر يضم الثلاثي الخليجي ومعهم رابعهم المصري، الذي دخل حفلة الدجل والكذب، كجملة لا محل لها من الإعراب. ومعسكر ثان بدأ بالإعلام القطري ومن ثم تدريجياً مع الوقت، توافدت أجزاء كثيرة من الإعلام والتواصل الكويتي والعماني، لتنضم إلى المعسكر القطري. ما يهمنا في هذا الموضوع، دون كثير شروحات وتفصيلات، كيف أن إعلام المعسكر المحاصر أو إعلام الرباعي المتأزم، لعب دوراً فاحشاً فاجراً في دعم وتأكيد وإثارة الخصومات في هذه الأزمة، بل والفجور فيها، والزج بالشعوب في أتونها، حتى انقسمت المجتمعات الخليجية في سابقة هي الأولى من نوعها بالمنطقة الخليجية، فاختلفت واحتقنت الشعوب بحسب ما تقرأ وتسمع وتشاهد في إعلام دولها، حقاً كانت موادها  باطلاً وزوراً وبهتانا. من هنا مثلاً، تجد أن نسبة من الشعب السعودي يميل حيث مال إعلامهم، وبالمثل الشعب الإماراتي، على الرغم يقيناً بأن هناك نسبة لا بأس بها مؤثرة لو تتفاعل مع الأحداث، لكنها تلتزم الصمت وتراقب الوضع وتدرك حجم الدجل والكذب والفجور في إعلامهم، ذلك أن جبروت وفحش قوانين التعاطف مع قطر، جعلت الكثيرين منهم يبحثون عن السلامة أولاً وأخيراً خلال هذه الأزمة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، وحينها سيكون لكل حادث حديث. خلاصة ما أريد الوصول إليه، أننا اليوم ونحن نعيش ثورة معلوماتية هائلة، تصاحبها ثورة في تقنيات الاتصال والتواصل وسهولة الوصول إلى الحقائق، لا يجب أن نرهن عقولنا لوسائل إعلام هذا وذاك. إذ يكفي أن تعلم أنه لا وجود لوسيلة إعلامية محايدة في هذا الزمن، بل لا يمكن صناعة مثل هذا النوع من الإعلام. على أنه مع ذلك، هناك تفاوت كبير بين وسيلة وأخرى في درجة المصداقية والثقة والحياد، وهذا ما يدفعنا إلى أن نستقبل ما تنتجه الآلة الإعلامية هنا وهناك بكثير من الحذر والتمعن، قبل التصديق وإعادة النشر وبناء الأمور على نتاج تلك الآلة الإعلامية..    نحن لا نعيش زمن هتلر ومستشاره الإعلامي جوبلز، صاحب سياسة اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس. كان هذا الأمر مقبولاً ومفهوماً في فترة من فترات التاريخ، حيث ندرة مصادر المعلومات. لكن اليوم، لا يمكنك أبداً قبول هذا المنطق، حتى لو حاولت ( العربية ) أن تكذب وتدلس أو ( سكاي نيوز أبوظبي ) أن تفبرك الأخبار، أو غيرهما من صحف وفضائيات دول الحصار.. أقول، حتى لو حاولت تلك الوسائل الإعلامية أن تغرق شعوبها بالكثير من الغث حول قطر، فإن الحذر والتأكد والتريث واجب، قبل التصديق وإصدار الأحكام.. ولا أقول لتلك الشعوب أن تعتزل إعلامها، لكن أدعوها أن تحاول بكل الطرق، الاطلاع على إعلام الغير أيضاً، لتكتمل الصورة.. وبالمثل هي دعوة للجميع إلى التأني والتريث مع ما تضخه وسائل الإعلام المختلفة، سواء المحلية أو غيرها. حاول أن يكون لك تصورك الخاص ورؤيتك الخاصة لأي موضوع. اسمع وشاهد واقرأ من مصادر عدة، ثم احكم وقرر بنفسك، ولا تسلم عقلك لغيرك ينسج فيه ما يريد. واعلم أخيراً أنك على دين واحد حق تتبعه وتسير على هداه، وليس على دين إعلامك..