الشيخ جاسم بن ثاني الذي فقدناه ورحلة مع عبق التاريخ والأدب والأنساب (2)

كما قلنا في الحلقة الأولى عن الشيخ جاسم بن ثاني آل ثاني أحد أعمدة التأريخ السياسي والاجتماعي والثقافي خلال القرنين الميلاديين الماضيين، بأنه أبرز المراجع الأساسية لتاريخ وأنساب العرب في قطر والجزيرة العربية، فقد كان يهتم بهذه المجالات التي هجرها الكثير من الباحثين والادباء على مستوى قطر ومنطقة الخليج، كما كان — رحمه الله — موسوعة تاريخية لا تقدر بثمن خاصة لأحداث قطر إبان عهد جده المؤسس الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني — طيب الله ثراه — حاكم قطر وباني مجدها وموحد قبائلها وجامع كلمتهم على الخير في الشدة والرخاء. وهو بجانب ذلك كان أديبا ومؤرخا لسيرة الشعر والشعراء ومناقب الادباء عبر العصور الماضية، منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث، وبخاصة شعراء بني تميم كالفرزدق وغيره.لم يكن الاديب والمؤرخ الراحل الشيخ جاسم بن ثاني بن جاسم آل ثاني إلا رمزا من رموز عبق التاريخ في المجتمع القطري، وهو بقدر ما كان مهتما بهذين المجالين بقدر ما كان محبا وعاشقا لهما، بحانب تعلقه ايضا بعلوم الدين، وكتابته للشعر الفصيح والنبطي في نفس الوقت.قبائل قطر واعتزازها بالمؤسسمن خلال مجالستي مع الشيخ جاسم بن ثاني منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى قبيل وفاته كنت اشعر بأنه لم يكن شخصا عاديا في رواية الشعر والأحداث السياسية والتاريخية، بل كان يسرد تلك الأشعار والأحداث بطريقة سلسة وواضحة وميسرة للمتلقي الذي يقف اماه دون تحيز.هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الفقيد لا يأتي على ذكر حادثة ما أو قصيدة ما أو قبيلة ما إلا ويذكر تفاصيلها بكل نزاهة وامانة، ولعل تدينه واتصاله بالله بشكل يومي كان هو السبب، حيث عرف عنه شدة تمسكه بالدين والتزامه بالشرع في كافة شؤونه الحياتية، وهو ما اكسبه حب الناس له وتعلقهم به لأنه كان صادقا في كل ما يقول ويفعل.كذلك كان يفتخر بجميع قبائل قطر دون التقليل من أحد منها، فهو يعتبر "أولاد نفيع" هي عزوة أهل قطر قديما في النكبات والشدائد وهي المنهج الذي تسير عليه تلك القبائل، وخاصة عند النذير ووقت الحروب التي تصدت لها تلك القبائل بكل قوة وبسالة بقيادة المؤسس الشيخ جاسم بن ثاني (1826 — 1913) الذي كان كثيرا ما يفخر بتلك القبائل ويعتز بها في شتى الظروف. فعرف عن الفقيد الراحل دفاعه المستميت عن تلك القبائل واهلها الذين كانوا يقدرونه ويفتخرون به على الدوام لأنه كان يعتز ويفتخر بهم لكونهم حافظوا على هذا الوطن منذ قرون مضت فصانوا ارضه من الغزاة المعتدين، وكانوا من الامثلة التي يحتذون به في كل وقت. وقد كان الكثير من كبار الاعيان والوجهاء يزورونه باستمرار بمجلسه الخاص ويأخذون منه الدروس والعبر والاشعار التي تنم عن المعاني والاخلاق الرفيعة لشعب قطر على مدى الزمان.صفحات من تاريخ قطركان يوجد في مجلس الشيخ جاسم بن ثاني احد القراء والذي يقوم بقراءة ورده اليومي او الاسبوعي من الكتب والمؤلفات العلمية في مجالات الفقه والدين والأدب والشعر والأنساب وغيرها من العلوم التي تعلق بها الشيخ جاسم — رحمه الله — وهي مجموعة من الكتب التي كانت تزخر بها مكتبته الخاصة.وقد لازمه طوال حياته واخذ رواياته التاريخية والادبية العديد من اقاربه وابنائه وابناء اسرته مثل ابنه الشيخ خليفة وأخوته جميعا وحفيده الشيخ خالد بن حمد بن جاسم بن ثاني الذي كان ملازما له ولا يكاد يفارق مجلسه حبا وتعلقا بجده، وكذلك المؤرخ والراوي الشيخ ناصر بن حسن بن عبدالله بن جاسم آل ثاني والشيخ ثاني بن خالد بن ثاني آل ثاني، وحفيده الدكتور الشيخ محمد بن حمد بن جاسم آل ثاني، وكذلك الشيخ الدكتور حسن بن محمد بن علي آل ثاني الذي كان مهتما بالمؤرخ والاديب الشيخ جاسم بن ثاني وما كان يحفظه من تاريخ لدولة قطر خلال القرنين الماضيين، واستطاع الشيخ حسن بن محمد ان يتوج ذلك اللقاء معه بجمعه للكثير من الحوادث التاريخية في الماضي وحصرها في دراسة غير منشورة بعنوان "صفحات من تاريخ قطر" وهي خلاصة تجربة الشيخ جاسم بن ثاني مع الروايات التاريخية التي سمعها ووثقها عن قطر وبخاصة منذ حياة المؤسس الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني حتى وفاته سنة 1913م. كما كان والدي صباح بن سعيد الكواري — أطال الله في عمره — من الذين يجالسون الشيخ جاسم بن ثاني باستمرار وكانت تربطه به وبأبناء آل ثاني الكرام علاقة قديمة امتدت لعدة عقود.منتدى الشيخ جاسم بن ثانيمن الأمور التي تحسب للمؤرخ والأديب الراحل رغم تقدمه في السن انه كان مهتما بإيصال رسالته إلى الناس عبر الشبكة العنكبوتية، حيث بادر قبل سنوات بإنشاء "منتدى الشيخ جاسم بن ثاني بن جاسم آل ثاني" على الانترنت، ويبث من خلاله توجيهاته وادعيته ورسائله في الاعياد والمناسبات الوطنية ومعلوماته حول شتى مجالات الادب والتاريخ والانساب لكي يستفيد منها جيل اليوم، وهذا الشيء اكسبه حب الناس له لاهتمامه بالنشر الالكتروني لما لهذه الوسيلة من تأثير كبير وبخاصة على الشباب في قطر والجزيرة العربية فكانوا يتابعونه عبر هذا المنتدى باهتمام بالغ.حيث يتضمن المنتدى عدة صفحات رئيسية منها الشعر الفصيح والقديم ومنها ما هو نبطي، مع الاشارة إلى بني تميم على وجه الخصوص في اغلب المعلومات المنشورة في المنتدى، بجانب بعض الادعية الدينية والنصائح الدنيوية، ولنأخذ على سبيل المثال منها:أولا: صفحة المنتدى العام وتشتمل على قصيدة لحاتم الطائي وشعر السموأل وسلامة بن جندل، ومن كلام الامام علي، وقصيدة الامام فيصل بن تركي في بني تميم، والتعريف بمقولة إن من الشعر لحكمة، وبني تميم ووصية الإمام علي رضي الله عنه فيهم، وقطري بن الفجاءة، ومعلقة زهير بن ابي سلمى، وحلف تميم وقضاعة، وعدد بني تميم، والمعاضيد، وقصائد بصوت المطوع للشيخ جاسم بن ثاني، وأهازيج بني تميم، ومفاخر تميم من شعر الفرزدق بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن مجاشع التميمي، وغيرها.ثانيا: صفحة الشيخ جاسم بن ثاني، وتتضمن بعض القصص والتعريفات لبعض الحوادث مع التطرق إلى جده ووالده خلال القرنين الماضيين.ثالثا: ذكر بعض القصائد والاشعار الخاصة بالشيخ جاسم بن ثاني (نبطية وفصيحة) وهي كثيرة وموضوعاتها تتحدث حول: الدنيا وبعض الحكم والنصائح، وتأدية الزكاة، وقطع الارحام ونصح في وصل الاقارب، والامر بالمعروف، وحروب قطر القديمة، اولاد نفيع ومدح اهل قطر، القنص، الإبل، النساء، حلف المعاضيد وبني سليم، الشياي والفتوة، عيال تميم، بعض المراثي، بعض ألغاز.. وغيرها.رابعا: وصية الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني آل ثاني مؤسس دولة قطر.خامسا: بعض الصور لحكام قطر وشيوخ أسرة آل ثاني وبعض الشعراء.كلمة أخيرةبوفاة الشيخ جاسم بن ثاني بن جاسم بن محمد آل ثاني (1917 — 2014) تكون قطر قد فقدت أبرز المؤرخين والأدباء من جيل الكبار والرواد في العصر الحديث.