21 سبتمبر 2025
تسجيلتجري محاولات في العالم العربي للتخلص من الاستبداد ولاعتماد الديمقراطية الانتخابية على مختلف المستويات. ولم تستقر الأوضاع بعد لأن عمليات تغيير أو انتقال بهذا الحجم لابد أن تواجه العديد من المطبات والحواجز والعوائق، ولن تحصل نتائج إيجابية ملموسة إلا بعد سنوات من العمل الشاق. في الاتحاد السوفيتي السابق كما في أوروبا الشرقية، بدأ التغيير في سنة 1989 لكن النتائج الإيجابية لم تظهر إلا بعد سنوات عدة بل إن الناتج انحدر في السنوات الأولى التي لحقت التغيير السياسي. ولا يمكن قلب المؤسسات والقواعد والقوانين والعادات بسهولة، خاصة أن منافع كثيرة متجذرة في النظام القديم لا بد وأن تدافع بل تقاوم التغيير. في بلغاريا مثلا، انخفض الناتج المحلي الإجمالي حوالي 7% سنويا بين سنتي 1996 و1998، بينما لم يكن الانحدار إلا بنسب 2.5%، 4.4% و3% في كل من رومانيا وأوكرانيا وروسيا. فالدولة العظمى روسيا لم تنتقل بعد فعليا إلى مصاف الدول المتقدمة ديمقراطيا، وما الانتخابات الأخيرة إلا لتظهر جليا هذا الواقع. حتى لو استثمرت روسيا كثيرا في التعليم التقني ونجحت به، لم تستطع إنضاج مجتمع ديمقراطي حيوي كما حصل في أوروبا الشرقية. بين سنتي 1990 و2008، ارتفع عدد خريجي الجامعات الروسية من 401 ألف إلى مليون و359 ألف علما بأن التوزع اختلف جدا بحيث ارتفعت حصة متخرجي الأعمال والاقتصاد من 14% إلى 35% مما يشير إلى نقلة نوعية في التفكير الاقتصادي لمجتمع ينتقل من نظام إلى آخر. مقارنة بالدول الناشئة الأساسية، يبلغ عدد الباحثين في روسيا حوالي 391 ألف شخص مقارنة ب 85 ألفا في البرازيل ومليون ومائة ألف في الصين و116 ألفا في الهند. نسبة لعدد السكان، وتأتي روسيا في الطليعة ثم الصين فالبرازيل والهند. في الإنفاق على البحث مقارنة بالناتج، تأتي الصين (1.33%) أولا ثم روسيا (1.07%) فالبرازيل (0.83%) والهند (0.69%). في سنة 2009 أي سنة الأزمة المالية العالمية وبينما حققت الصين نسبة نمو قدرت ب 9%، انخفض الناتج الروسي بنسبة 8% مما يشير إلى عدم انعكاس الاستثمارات الكبرى في البحث والتطوير على الاقتصاد العام. وانتقال روسيا من النظام الشيوعي إلى الرأسمالي يعتبر مضرب مثل ليس من حيث النجاحات المحققة وإنما خاصة من ناحية العوائق التي تواجه مجتمعات ترغب في التغيير والانتقال كما يحدث اليوم عربيا. منذ البداية وفي الدول المنتقلة من النظام المركزي القوي إلى الديمقراطية الانتخابية، اتفق المسؤولون الجدد على الأولويات الاقتصادية وهي ضرب التضخم، ضبط عجز الموازنة، تحرير الأسعار، اعتماد سعر صرف واحد للنقد، تحرير التبادل النقدي، فتح الحدود التجارية أمام السلع والخدمات ورؤوس الأموال، إنشاء نظام مصرفي ومالي فاعل وشفاف، اعتماد قوانين حديثة لحقوق الملكية، ضبط الإنفاق الجاري وسياسات الدعم كما الحفاظ على الخدمات الاجتماعية عبر نقل ما أمكن إلى السوق أي إلى شركات التأمين. تحقق الاتفاق على الأولويات مع ترك التوقيت والتتابع لكل دولة تبعا لوضعها ولمواردها الرئيسة المتوافرة. في النظريات، كانت هنالك مدرستان أولاهما تطالب بتنفيذ ما اتفق عليه دفعة واحدة لإحداث التغيير القوي وتحقيق صدمة على المستويين الداخلي كما الدولي. ترتكز هذه النظريات على تكامل الإصلاحات واستحالة تجزئتها كما على الضرر الذي يلحقه التأخير من ناحية الفعالية وعدم الجدية والاستقرار. وهنالك نظرية أخرى تشير إلى العكس أي إلى اعتماد تسلسل واضح في تطبيق الإصلاحات لأن النظام السياسي الجديد يحتاج إلى وقت كي يقوي نفسه، ولأن تكلفة الأخطاء تكون عموما كبيرة في وقت تتغير فيه طبيعة التوازنات الاقتصادية الداخلية. واعتمدت بولندا الطريقة الأولى وهي الدولة الأعلى نموا اليوم في أوروبا كما اعتمدت المجر الطريقة الثانية وهي الاقتصاد الناجح بامتياز. لا يمكن الحسم نظريا وحتى تطبيقيا، إذ تبقى الظروف المختلفة مهمة جدا. هل هنالك ما يدعو للعجب بالنسبة لتطور الأوضاع في الدول العربية؟ هل تعاطي الشعب مع الأنظمة القائمة طبيعي؟ هل التمرد عجيب غريب ولماذا وصلت الأوضاع السياسية الاجتماعية إلى حدود الانفجار؟ ما حدث ويحدث في كل من ليبيا ومصر وتونس وسوريا واليمن وغيرها ليس إلا نتيجة طبيعية للحفاظ على الاستقرار بالقوة أي عبر منع الحريات وتقييد النشاط السياسي الفردي كما الجماعي والحزبي. وتشير التجارب إلى أن الأنظمة القسرية تتعرض دائما لهزات قوية كبرى، إذ إن الحل يكون إما بالاستمرار بالظلم والظلام أو بكسر النظام كليا وهذا ما أشارت إليه تجارب الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية. تضع هذه الأنظمة نفسها في موقع خطر يمنعها من التنفس والتأقلم. ومن الصعب على هذه الأنظمة تطبيق الإصلاحات ضمن النظام، وهذا ما تشير إليه تجربة مصر الحالية. ما يحدث عربيا اليوم شبيه بما حدث للنظام المالي الدولي في العقد الأخير. قبل سنة 2007، كانت الأمور ظاهريا مستقرة والثقة كبيرة بل إن نمو الأسواق والاقتصادات العامة كان قويا ومتواصلا. وكانت الأوضاع ظاهريا جيدة معتمدة على تقاعس مؤسسات الرقابة، بحيث تركت تتطور دون أي إجراء جدي حتى تم السقوط. هل الوضع العربي مختلف؟ هل مظاهر الاستقرار السابق مقبولة والتي طبقت قسرا على الشعوب؟ يقول الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" إن الازدهار ينبع من الحرية وتقلباتها وليس من السلم واستقراره الاصطناعي. يقول المؤسس الأمريكي "توماس جيفرسون" إن التعليم هو ركيزة الديمقراطية وبالتالي يجب تطويره وتحديثه. فما المطلوب عربيا في الدول التي تعرف الخضات اليوم كما في الدول التي من المتوقع أن تعرفها مستقبلا؟ هنالك فرصة كبيرة للتغيير يجب الاستفادة منها. أولا: الاستقرار المفروض بالقوة مضر ولا يدوم. يجب أن يسمح للأنظمة السياسية بالتنفس بحيث تعالج المخاطر وتمنع بالتالي سقوطها. يجب أن تستطيع تطوير نفسها دون أن تسقط. المطلوب أنظمة تخفف حجم الضرر على الشعوب، ولا تمنع وقوعه لأن هذا غير طبيعي. ثانيا: يجب وضع قيود وأنظمة للاقتصادين الحقيقي والمالي، لكن ضمن شروط المنطق والليونة بحيث تفيد عملاء السوق وليس المتربصين بها أي من ينتظر سقوطها لجني الأرباح. ثالثا: من الأفضل تطبيق الإصلاحات بقوة ودفعة واحدة، إذ إن الفرصة الذهبية لن تتكرر بسرعة عربيا وبالتالي نقترح اعتماد النظام البولندي الذي يعطي اليوم نتائج مدهشة. فلنستفد عربيا من جو التغيير ولا نحاول إخفاء الأسباب المشروعة أو قمعها. تجاهل الواقع يؤدي مع الوقت إلى تعزيز أوضاع المتطرفين، وهذا ما لا يرغب به أي عاقل في الداخل أو الخارج.