14 سبتمبر 2025

تسجيل

حتى لا تضيع الأمانة

28 نوفمبر 2019

هذه خطورة امتناع أصحاب الكفاءات والأمانات عن تولي المسؤوليات حينما يتم اللجوء إليهم أهل الكفاءة والخبرة يجب أن يتصدروا للمهام والوظائف العظيمة، سواء طلبوها أم لم يطلبوها استكمالاً للموضوعات التي تحدثنا عنها في الأسبوعين الماضيين، وكان أحدها حول خطورة امتناع أصحاب الكفاءات والأمانات عن تولي المسؤوليات حينما يتم اللجوء إليهم. فيما الآخر كان حول حدوث العكس، وهو أن يطلب صاحب الكفاءة ومن يتحلى بالأمانة، أن يتولى منصباً ما أو مسؤولية معينة في البلاد، يرى نفسه أهلاً لها والخطورة كذلك في تجاهله بصورة أو بأخرى، باعتبار أن ذلك يمكن أن يُدرج تحت نطاق إضاعة الأمانة، وهي موضوع اليوم. حين سقطت راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معركة مؤتة مع الروم ثلاث مرات، باستشهاد قادة المعركة الذين عينهم – صلى الله عليه وسلم – على التوالي: زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب وأخيراً عبدالله بن رواحة الأنصاري.. حدثت قصة في غاية الأهمية. ما إن وقعت الراية للمرة الثالثة، حتى رفعها على الفور صحابي يدعى ثابت بن أقرم العجلاني، من بعد أن فرغت القيادة فجأة من الذين تم تعيينهم. فنادى في الناس أن يختاروا قائداً للجيش، فقالوا: أنت أميرنا. لكنه رفض، رغم قدراته القتالية، ومشى بالراية من فوره إلى سيف الله المسلول خالد بن الوليد – رضي الله عنه - ولم يمض على إسلامه سوى شهور قليلة، وفي الجيش، صحابةٌ كُثُر من المهاجرين والأنصار، الذين لهم السبق في الإسلام، ومع ذلك اتجه زيد بالراية إلى من اعتقد أنه الأكثر جدارة برفعها وتولي القيادة. رفض خالد بداية الأمر تسلم الراية والقيادة وقال لثابت: والله لا آخذها منك، وأنت أحق بها. وطلب منه الاحتفاظ بالراية وقيادة الجيش. لكن ثابتاً قال لخالد: والله ما أخذتها إلا لك.. وهكذا بعد أخذ ورد بين الصحابيين الكريمين، زيد وخالد، تولى الأخير قيادة الجيش واستلام الراية، إلى بقية قصة مؤتة المعروفة. ماذا تعني لنا هذه القصة ؟ أو ماذا يعني لنا هذا المشهد الرائع، الذي لا أعتقد أنه استغرق سوى دقائق قليلة معدودة، لكنه حمل الكثير من المعاني، أهمها هو موضوع اليوم، إضاعة الأمانة. ففي المشهد نرى أن زيداً وجد في خالد بن الوليد، رجلاً عسكرياً قيادياً بالفطرة، ومن هذا المنطلق لا يجب أن يتخطاه أحد، وهو يومئذ الأكفأ والأجدر بتولي زمام الجيش وقيادة المسلمين يومها، بغض النظر عن مسألة الأسبقية إلى دخول الإسلام. ففي خضم معركة شديدة الوطء على المسلمين، واشتداد الأمر عليهم خاصة في اليوم الثالث العصيب، لم يكن من بد سوى قبول خالد أمر قيادة الجيش، والتصرف السريع قبل أن يهلك الجيش بكامله. الوقت لا يسمح أن يفرض خُلُق التواضع نفسه هاهنا بحجة البعد عن الأضواء وغيرها من مغريات ومميزات القيادة، وخشية الافتتان بها. نعم الأمر جد، والحاجة حينذاك والأمانة كذلك تقتضيان إسناد الأمر إلى صاحب كفاءة ومهارة وقدرة، بغض النظر عن أي سوابق وخلفيات. المسألة فيها مصلحة عامة وتمثلت في إنقاذ أرواح المسلمين يومها من موت محقق وإبادة شاملة لا شك فيها، وتلك المصلحة مقدمة على أي مصلحة شخصية، أو هكذا ربما فهمها سيف الله المسلول، فكان ما كان من أمر الانسحاب والقصة المعروفة كما أسلفنا. درس عملي في الإدارة، وأهمية أن يتصدر أهل الكفاءة والخبرة للمهام والوظائف العظيمة، سواء طلبوها أم لم يطلبوها. المصلحة العامة في مواقف معينة، لا يجب أن يُترك القرار للشخص، فالتواضع ورغبة البعد عن الأضواء والشهرة لأي سبب من الأسباب، هي أمور لا يجب الالتفات إليها في مواقف صعبة من تلك النوعية التي مر بها المسلمون في المعركة. وإن الضرر الذي يمكن أن يحل بالعام أكثر وأكبر من ذاك الذي قد يحصل للخاص أو الشخص نفسه. هذا هو لب الموضوع. وبمعنى آخر: إسناد أي أمر وخاصة العظيم، إلى أشخاص غير أكفاء أو مؤهلين، وإنما بناء على هوى مسؤول ما ومزاجه، أو وساطات من هذا وذاك عند صاحب القرار، فإنما هذا هو بالضبط ما نسميه بإضاعة الأمانة، وهي التي جعلت أعرابيا يسأل عن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم:" فإذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة ". قال: كيف إضاعتها؟ قال:" إذا وُسّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة ". [email protected]