31 أكتوبر 2025
تسجيلالتساؤلات التي تزاحمت على مخيلة المتابعين لحادثة إسقاط تركيا المقاتلة الروسية سوخوي 24 يوم الثلاثاء الماضي، كانت بمجملها تدور حول ما إذا كانت الأسباب أبعد من حالة الاختراق للمجال الجوي التركي، الرواية التي يصرّ الروس على نفيها دائما. وما إذا كانت تنذر باندلاع حرب إقليمية وربما عالمية ثالثة، استئناساً بنظرية السياسي الأمريكي المخضرم هنري كيسنجر أن حرباً عالمية قادمة ومن لم يسمع قرع طبولها فهو أصم. بشيء من الواقعية السياسية، وبعيداً عن تنبؤات السيد كيسنجر، واضح أن الأتراك والروس لن ينجروا إلى معركة مفتوحة بينهما. واستناداً إلى قواعد الأزمات الدولية، فإن الحروب بين الدول تنشأ باعتبارين: إما أن تكون إرادة سياسية تريد الحرب، وبالتالي تسعى لإيجاد ذرائع إشعالها. وإما ألا تتوفر الإرادة السياسية، لكن تداعيات الأحداث تفرض على متخذ القرار السياسي إعلان الحرب. ونزعم أن الحالتين في المدى المنظور غير متوفرتين لدى كل من روسيا وتركيا، فضلا عن حلف الأطلسي. والأحداث في سوريا مهما بالغنا بخطورتها وحجمها الدولي، فإنها لا ترقى إلى مستوى أعلى من حرب بالوكالة تتعدد أقطابها. في الحالة التركية، الأرجح أن إسقاط الطائرة الروسية لم يكن سببها الحقيقي دخول المجال الجوي التركي بقدر ما هو رسالة امتعاض للروس أن كفّوا عن استفزازنا في الشمال السوري. تصريحات أردوغان وداود أوغلو عقب الحادثة كانت واضحة وتعكس حجم الغضب والقلق في الآن. فهم لا يريدون للأمور أن تتدهور مع الروس، ولا يريدون السكوت على ما يعتقدونه أنه جس نبض روسي مستمر لقدراتهم، وتجاهل متعمد لمصالحهم في سوريا. تركيا التي أحاطت الناتو ودول أعضاء مجلس الأمن الدائمين بملابسات الحادث، كانت تحصنت بمبادئ القانون الدولي وتطبيقا لقواعد الاشتباك المعمول بها بين البلدين من ناحية، وبين تركيا وسوريا من ناحية أخرى عقب إسقاط طائرة تركية في المتوسط قبل نحو سنتين. لا ينبغي هنا أن نتجاهل أن ضغطاً شعبياً يمارس على الحكومة التركية يطالبها بفعل شيء لحماية أقربائهم في الدم في جبل التركمان. وأردوغان على ما يبدو، أراد امتصاص الغضب بهذه العملية لمّا سنحت الفرصة لذلك حتى لا يظهر عجزاً تركياً. وهو نال إعجاب الشريحة الواسعة من الشعب التركي المعتز بقوميته وهويته. وإذا دققنا قليلا في التصريحات التركية منذ التدخل الروسي في سوريا بشكل مباشر، يتضح لنا أبعاد الموقف التركي. أردوغان في تعليقه على حادثة المقاتلة الروسية، قال إن روسيا لا تقصف في سوريا مواقع "داعش"، بل تقصف فصائل الثورة السورية لحماية نظام بشار الأسد. ويبدو أنه ما زال يراهن على إنشاء المنطقة الآمنة التي تراجعت حظوظها بعد التدخل الروسي، حيث كشف في خطابه الأخير الذي أنهاه بقوله: "أتمنى التوفيق للمقاتلين التركمان"، أن تركيا ستنشئ بالتعاون مع حلفائها منطقة إنسانية آمنة بين جرابلس والبحر المتوسط. لا نعلم ما إذا كان الأتراك سينجحون في إقناع حلفائهم بضرورة إقامة منطقة إنسانية طالما أنهم يعلمون تماما أن الغرب لا يقلقه في الوضع السوري سوى أمرين لا ثالث لهما: وصول الإرهاب إلى أراضيه أو وصول اللاجئين. والغرب بشكل قاطع غير مستعد للدفاع عن مصالح تركيا إذا كانت مصالحه بمنأى عن الضرر. في المقابل، يعتقد الأتراك أن روسيا تحتاج بلا شك للتعاون التركي إذا ما أرادت ترتيب البيت السوري. وهم حتى ذلك الحين لن يسمحوا بتمدد الأكراد على حدودهم أو تشكيل إقليم خاص بهم في سوريا، كما أنهم لن يتخلوا عن التركمان في سوريا.