14 سبتمبر 2025

تسجيل

حديث التوبة والثورة

28 نوفمبر 2012

عادة ما تنحصر الدروس المستفادة من حديث الرجل الذي قتل مائة نفس في أن التوبة ممكنة، وأن العلم أرفع قدرا من العبادة المجردة، فقد فشل العابد الذي لجأ إليه القاتل في أن يجد له مخرجا من ذنبه، فيما أدرك العالم بعلمه أن رحمة الله أوسع من ذنوب هذا القاتل، فأفتاه بأنه لا يوجد ما يحول بينه وبين التوبة حتى ولو كان قتل مائة نفس. أما الدرس الغائب، والذي لا يتوقف عنده الكثيرون في هذا الحديث، فهو الشرط الذي وضعه العالم للسائل لكي تكون توبته ممكنة، ألا وهو مغادرة قريته إلى قرية أخرى، معللاً ذلك بأن قريته تحوي قوم سوء، يصعب عليه التوبة وسطهم، ونصحه من ثَمَّ أن يهاجر إلى قرية صالحة بها أناس يعبدون الله فيعبده معهم. يتضمن هذا الدرس أن تغيير النفس قد يكون صعبا أو مستحيلا في أجواء معينة، وأن الأمر قد يتطلب مفارقة الأوضاع القائمة تماما حتى يمكن للتائب أن يجني ثمرة توبته، ويستشعر تغييرا حقيقيا في شخصيته. فمجرد الإقلاع عما تم الاعتياد عليه في الماضي لا يضمن حدوث التغيير المطلوب، ولا يضمن عدم الانتكاس من جديد إلى وضع ما قبل التوبة. وهذا هو نفس معنى "الثورة" التي لا يصبح لها هي الأخرى معنى لو ظلت مهادنة للأوضاع القائمة، متصالحة مع الواقع الذي ثارت عليه، متباطئة في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها. الثورة مثلها مثل التوبة تتضمن ضرورة مفارقة الأوضاع القائمة وتغيير الواقع إلى واقع جديد، ولا يعتد في ذلك بما إذا كان هذا التغيير يتم وفقا للقواعد والقوانين أم لا. فالثورة بوصفها خروج على النظام القديم هي عمل يعاقب عليه القانون، وهي في جانب منها ثورة على هذا القانون الذي يسمح للمستبد أن يمارس ظلمه بلا رادع. وعليه يصبح الاحتجاج بمعارضة الثورة للقانون احتجاجا قليل الأهمية. ولهذا يستخف الكثير من المصريين بالانتقادات القانونية التي توجه هذه الأيام إلى الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المصري، الدكتور محمد مرسي، في الأسبوع الماضي. على اعتبار أن إصدار مثل هذا الإعلان أمر ضروري من وجهة نظر الكثيرين لاستكمال الثورة وتحقيق أهدافها، حتى لو جاء متعارضا مع سيادة القانون. فثمة قناعة لدى عموم المصريين أن مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسات القضائية بطبيعة الحال، قد طالها الفساد في ظل النظام القديم، وأن تطهيرها يحتاج إلى قرارات استثنائية، وأن تركها دون تطهير كفيل بأن يؤسس لأوضاع تعيد منظومة الفساد القديمة إلى العمل بكامل طاقتها. ومما أسهم أيضا في دفع الكثيرين باتجاه القبول بالإعلان الرئاسي على الرغم مما يحتويه من تمرد واضح على السلطة القضائية أن الأخيرة كانت قد فقدت قدرا كبيرا من التعاطف الشعبي معها بسبب ما صدر عنها مؤخرا من أحكام شابتها انحيازات سياسية واضحة، مثل قرارها بحل مجلس الشعب، واستبعاد عدد من الرموز السياسية المهمة من خوض الانتخابات الرئاسية. وربما شجع هذا الإحباط الشعبي الرئيس بأن يقوم بخطوته الاستباقية الممثلة في إصدار الإعلان الدستوري حتى يحول دون إجهاض باقي خطوات استكمال مؤسسات الحكم. الانقلاب على الأوضاع القائمة كان إذن خطوة متوقعة ينتظرها الكثيرون من الرئيس المنتخب، بل كان ما يتعجب منه البعض أنه تأخر في القيام بذلك. ولعل المشاكل التي صاحبت صدور هذا الإعلان لا تنبع مما تضمنه من قرارات، بقدر ما تنبع من الطريقة التي تم بها إخراج هذه القرارات، فمستشارو الرئيس أكدوا أنه لم يتم مناقشتهم فيها أو إطلاعهم عليها قبل اتخاذها، الأمر الذي يشير إلى انفرادية مقلقة لا تتناسب مع خطورة ما تضمنته هذه القرارات من أبعاد سلطوية غير مسبوقة. من المشاكل الأخرى المرتبطة بهذا الإعلان أن الملابسات التي صاحبت إصداره أعادت إلى الذاكرة ما دأبت عليه جماعة الإخوان منذ بداية الثورة من عدم قدرة على الاستمساك بالمواقف التي يلزمون أنفسهم بها، مثل قرار الاقتصار على الترشح بثلث أعضاء مجلس الشعب فقط، والذي تم التراجع عنه لصالح قرار الترشح عن كافة المقاعد، وقرار عدم خوض الانتخابات الرئاسية والذي تم التراجع عنه أيضا بالدفع بمرشحين وليس مرشحا واحدا. الإعلان الدستوري يعيد إلى الذاكرة هذه التراجعات، وبخاصة بعد ما كان صدر عن الدكتور مرسي في بداية ولايته من تأكيد على تنفيذ واحترام أحكام القضاء، فإذا به يحصن قراراته إزاءه، مما يثير قلقا حول مدى النجاح الذي يمكن أن تحققه التجربة الإخوانية في الحكم، خاصة وهي تكرر خطأ التعهد بما لا يمكنها القيام به، وتقع في فخ التصريحات المتسرعة التي لا تأخذ عنصر الوقت وما ينطوي عليه من تغيرات في الحسبان. من مشاكل الإعلان الدستوري أيضا أن حزمة القرارات التي تضمنها أثارت ارتياب بعض المتشككين ممن ذهبوا إلى أن تصدير الإعلان بالحديث عن إعادة محاكمة قتلة الشهداء، وتفريع تحصين قرارات الرئيس والجمعية التأسيسية منه هو أمر مقصود على نحو ذرائعي، فهؤلاء يعتبرون أن المادة الأولى ما هي إلا طعم لتمرير ما تلاها من مواد، تماما كما فعل الرئيس الراحل أنور السادات عندما مرر مادة التمديد لرئيس الجمهورية مدى الحياة تحت غطاء المادة التي جعلت من الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. هذه المشاكل والشكوك تحتاج من الرئاسة المصرية أن تعيد النظر في المنهج الذي تتبعه لتحقيق أهداف الثورة، ومن ذلك ضرورة أن تصوغ قراراتها في هذا الصدد بعد عملية تشاورية مع المختصين والمستشارين، وأن تلزم نفسها فقط بما تستطيع الوفاء به من التعهدات والالتزامات، وأن تقدم مذكرة تفسيرية واضحة لبنود هذا الإعلان تزيل ما يصاحبه من قلق وشكوك لدى البعض. وذلك لكي تجنب البلاد الوقوع في انقسامات يتمنى الكثيرون استثمارها وتعميقها. ومن هنا يمكن القول إنه إذا كان تفكيك الدولة العميقة واجبا، فإن الحكمة في إدارة عملية التفكيك بما يسحب الهواء من أشرعة قوى الثورة المضادة أوجب.