15 سبتمبر 2025
تسجيلاتسمت اللقاءات الفلسطينية الأخيرة في القاهرة بكل ما يدعو إلى التفاؤل بأن المصالحة وضعت في حيز التفعيل. يدعم ذلك أن الجانبين "فتح" و"حماس"، أكدا ما بات متفقا عليه وما لم يكتمل الاتفاق عليه بعد، كما اهتما بخطوات بناء الثقة التي يفترض أن تصبح ملموسة في الضفة والقطاع، ومن أبرزها انتهاء ملف المعتقلين والمستهدفين، أي إعادة التعامل مع الأفراد والمؤسسات الى ما كان عليه قبل 20 يونيو 2007م. كان معروفا قبل لقاء الرئيس محمود عباس رئيس المكتب السياسي لـ "حماس"، خالد مشعل، أن الافق السياسي لعلاقة الطرفين يمثل عقبة كأداء ففي غياب تفاهم سياسي على خيارات مشتركة، حتى مع تمايز المنطلقات والآراء، لا يمكن بناء مصالحة حقيقية وقابلة لأن تستمر في ظل الضغوط والتحديات والمتغيرات، وكان معروفا دائما أن معيار المصلحة الوطنية هو الذي سيحسم في نجاح أي مصالحة أو فشلها، اما المصالح الفئوية والفصائلية فقد جربت وأمكن التعرف على محدوديتها، وخصوصا إلى الاضرار الجسيمة التي انزلتها بالقضية الفلسطينية وبكل فئات الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة سواء بسواء. لا شك أن مناخ المتغيرات العربية والاقليمية شكل خلفية دافعة في اتجاه انتهاج الواقعية لوضع الخلافات الفلسطينية في احجامها الطبيعية، وبالتالي لتذليلها وتجاوزها، لكن الوضع الفلسطيني نفسه واجه "فتح"، و"حماس"، بمخاطر تتطلب تنازلات وتضحيات، ثم ان كلا منهما وصلت الى افق مسدود، فلا فتح ولا حماس استطاعت خلال اعوام الانقسام ان تحرزا تقدما حاسما للقضية بالنهج الذي اتبعته، سواء كان تفاوضا ومسالمة أو مقاومة مسلحة وحروبا، لذلك وصل الجميع أو بالاحرى عاد الجميع، الى المربع الأول الى اليقين نفسه بان قوات الاحتلال الاسرائيلية برهنت عن استخفافها بأي سلام مع الفلسطينيين، وراهنت بقوة على انقسامهم وعلى احباط كل مساعيهم لتحقيق شيء من الاستقلال والسيادة على ارضهم. كان لافتا ان تتبنى حماس بعد لقاءات القاهرة، شعار المقاومة الشعبية الذي جعلته السلطة الفلسطينية وفتح الأسلوب البديل من المنازلات الحربية التي لابد أن يتفوق فيها العدو، لكن مفهوم حماس كما شرحه عضو مكتبها السياسي عزت الرشق يوسع افق هذه المقاومة الشعبية، إذ اشار الى حشد طاقات شعبنا في مقاومة شعبية ووطنية لمواجهة الاستيطان وتهويد الارض والمقدسات، ولمواجهة الاحتلال نفسه، في حين ان عزام الاحمد، مفوض العلاقات الوطنية في اللجنة المركزية لفتح، اشار الى تعزيز المقاومة الشعبية لمواجهة الاستيطان والجدار، بديهي ان حماس التي استندت إلى كونها تقيم حاليا هدنة نارية مع العدو، تريد ان تبقي الخيارات مفتوحة، ولو نظريا، لأن الجانب الاسرائيلي يستطيع ان يتعايش مع مقاومة سلمية من دون أن يغير شيئا في سياساته، بل انه لم يتردد في الاعوام الأخيرة في التعامل مع التظاهرات السلمية بكامل وحشيته واجرامه، وقد أدى ذلك الى مقتل واصابة عدد كبير من الاجانب المتطوعين للتضامن مع الشعب الفلسطيني سواء في المسيرات ضد هدم البيوت أو الحملات لكسر الحصار على غزة. يدرك الفلسطينيون ان اوضاعهم منذ اتفاق اوسلو تغيرت جذريا صحيح ان هذا الاتفاق اتاح لهم امكان تجذير كياناتهم وفتح امامهم آفاق بناء دولتهم ومؤسساتهم، إلا أنه اخذ منهم في المقابل خيارات كانت متاحة سابقا لخوض المقاومة المسلحة المفتوحة من دون أن يوازن ذلك بخطوات متقدمة نحو تسوية سلمية مقبولة ومنصفة، كما أن هذا الوضع الجديد أدى الى تقنين التضامن العربي وحصره في المراهنة على المفاوضات من دون بدائل ضرورية في حال الإخلال الاسرائيلي بشروط عملية السلام وحتمية متابعتها للوصول الى نهاية للصراع، وقد يكون هذا الوضع، بما كشفته اسرائيل ومعها الولايات المتحدة من خداع واجندات خفية خارج اطار اوسلو، هو الذي تفاعل على النحو الذي ادى في النهاية الى نزاع فلسطيني-فلسطيني والى انقسام على الارض وحتى داخل المجتمع، من هنا أي مسعى لإنهاء الانقسام لابد ان يعترف بحقيقة الوضع الراهن وان يخطط للعمل من خلاله وليس بمجرد رفضه والتباكي على ما كان وما لم يعد ممكنا. انها مرحلة جديدة لنضال الفلسطينيين من أجل قضيتهم وينبغي ان تخاض بكل ما توصلوا اليه وباحتسابه ما أرادت السلطة ان تثبته بخطواتها الدبلوماسية وعلاقاتها الدولية وكذلك ما حاولت حماس ان تؤكده من خلال المعاناة القاسية التي مر ويمر بها قطاع غزة بل حتى ما حققته من مكاسب للقضية في اطار علاقاتها الخارجية، وفي هذا السياق لابد للفلسطينيين ان يبلوروا اساليب يمكن دعوة العرب إلى المساهمة فيها، لان العرب تغيروا ايضا ولا فائدة من الدأب على لومهم وتقريعهم، فهم لم يفقدوا إيمانهم بالقضية الفلسطينية لكن انشغالهم في دولهم ومجتمعاتهم ادى الى تقليص مساهمتهم، الا ان انتفاضات التغيير يمكن ان تفتح آفاقا جديدة إذا نجح الفلسطينيون في ملاقاتها بخطط ملائمة. في هذا المجال يمكن تعميم المقاومة الشعبية، بشرط أن تؤخذ باعتبارها عملا ونشاطا يوميين يراكمان الانجازات حتى لو كانت بسيطة في البداية، هذه تجربة يمكن ان تستفيد من كل من سبقتها خصوصا في جنوب افريقيا والهند، ويمكن أن تنخرط فيها الانظمة العربية الجديدة طالما أنها سلمية، ويمكن ان تستقطب مؤازرة اكبر من منظمات المجتمع المدني كافة حول العالم، يجب ان تمارس بإصرار وثبات، وبمعين لا ينضب من الافكار والخطط. يبقى أن الاهم في المصالحة ان تقفل الابواب التي ستواصل اسرائيل والولايات المتحدة طرقها لبث الفرقة ومخاطبة الطموحات السلطوية عند هذا الفريق وذاك، لا شك ان الطرفين فتح وحماس يعرفان ان هذه المحاولات ستستمر وان هناك افرادا ومجموعات معرضون لاغراءاتها، لذلك ينبغي الإلحاح على أن تكون المصالحة تعبيرا عن مصلحة وطنية يريدها الجميع، واذا لم يكونوا استوعبوا دروس الصراع على السلطة والنفوذ فإنهم لن يتمكنوا من درء الاخطار العميقة على قضيتهم.