11 سبتمبر 2025
تسجيلفي ظل الظروف الصعبة التي مرت وتمر بها الامة العربية في السنوات الأخيرة، أسئلة عديدة تفرض نفسها تتمحور أساسا حول موقع المواطن العربي في المعادلة السياسية وهل من دور لهذا المواطن في اللعبة السياسية وفي صناعة القرار؟. هذه الإشكالية تتطلب الغوص في مسائل أخرى ترتبط بآليات الرأي العام في المجتمع وبوجود الرأي العام كمتغير من متغيرات المعادلة السياسية في أي دولة. وهنا يجب أن نحدد آليات المعادلة السياسية وتوزيع السلطة وصناعة القرار وعلاقة صناعة القرار بالرأي العام وهل هناك علاقة في الأساس. وإذا عدنا إلى التاريخ وحاولنا استقراءه والغوص في خباياه نجد أن الشارع العربي لم يكن في أي يوم من الأيام موافقا على عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني. فالشعب المصري على سبيل المثال وبعد ما يزيد على ما يقارب الأربعين سنة من إقامة مصر علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني ما زال يرفض أي نوع من التعاون مع الكيان الصهيوني، وما يقال عن مصر يقال عن الأنواع والأشكال المختلفة من العلاقات والاتصالات وحتى المصافحات التي تمت بين القيادات العربية والصهاينة. لكن رغم هذا حدث ما حدث ولم يقرأ ويدرس ويحلل الشارع العربي كما ينبغي لمعرفة الواقع كما هو والرجوع إلى الشارع في عملية صناعة القرار. فهناك فجوة قاتلة بين صانع القرار والشعب أي الرأي العام. وحتى آلية صناعة القرار في الوطن العربي لا تخضع في معظم الأحيان للمنطق والشفافية والمنهجية في العمل التي تعتمد على الدراسات والأبحاث والأدلة الدامغة والإحصاءات. مع الأسف الشديد في الكثير من الأحيان يصنع القرار أو يتخذ بطريقة شخصية وفردية يغلب عليها طابع المزاجية والفردية والأنا المتورم والغطرسة والعنجهية. معظم هذه القرارات تكون طائشة وبعيدة عن الواقعية والمنطقة ومصلحة الأمة. في مقال سابق تكلمنا عن اغتراب وتهميش وإقصاء المثقف العربي الذي أصبح دوره مشلولا في المجتمع وأصبح ينظر ويبرر الفساد والاستبداد والاستعباد. غياب المثقف أدى إلى غياب الشارع ما يعني غياب المواطن العربي عن الفضاء السياسي وتقرير مصيره والمساهمة في صناعة القرار. فما تقوم به بعض الدول العربية هذه الأيام من غطرسة وتدخل سافر في الشؤون الداخلية لدول أخرى رغم رفض شعوبها لهذه التصرفات ما هو إلا دليل قاطع عن الهوة الكبيرة بين صانع القرار والشعب. غياب الرأي العام يعني غياب الآليات السليمة والصحيحة والصحية والرشيدة للماكينة السياسية الديمقراطية. وإذا غاب الرأي العام غاب الرأي الآخر وغاب الحوار وغابت السوق الحرة للأفكار. ما نلاحظه مع الأسف الشديد هو وجود فجوة كبيرة بين السلطة والشارع العربي، بين الحاكم والمحكوم، بين صانع القرار وآليات صناعة القرار في الوطن العربي. قرارات هامة ومصيرية واستراتيجية تؤخذ باسم الشعب العربي وهو آخر من يعلم. وفي غالب الأحيان نلاحظ أن الشارع العربي - إذا كانت لديه الشجاعة أن يكشف عن موقفه – في اتجاه والسلطة في الاتجاه المعاكس تماما. وأخطر من هذا نلاحظ أن بعض القادة والحكام العرب يصرحون علنا ومن خلال وسائل الإعلام بشيء ويتفقون مع قادة دول عظمى في الكواليس على أشياء مختلفة تماما، فهناك خطاب للاستهلاك الإعلامي وللتمويه والتضليل وهناك خطاب آخر لإرضاء القوى التي تدير العالم أمثال الرئيس ترامب وعصابته. هذا الخطاب المزدوج يؤدي إلى ثقافة سلبية في المجتمع تقوم على النفاق والسلبية وتفرز سلوك الاستسلام والهروب من المسؤولية. النتيجة في النهاية هي انعدام السلطات المضادة في المجتمع وانعدام المجتمع المدني وانعدام المؤسسات والكيانات التي تراقب السلطة وأجهزتها وتراقب القوى التي تقود وتدير المجتمع. هذه القوى قد تحكم وتدير لخدمة مصالح فئة ضيقة جدا من المجتمع على حساب مصالح الأمة بكاملها ومصالح الفئات العريضة من المجتمع. وفي كل ما تقدم نسأل ما هو التقارب الموجود بين السلطة العربية والشارع العربي - الرأي العام - في التعامل مع القضايا المصيرية والهامة وخاصة القضايا التي تمس مشاعر وأحاسيس ومصالح الشعب مباشرة. ومع الأسف الشديد وللوهلة الأولى نلاحظ أن الرأي العام العربي مغيب بطريقة منهجية ومنتظمة في الكثير من القضايا التي تهمه من قريب أو بعيد. وإذا أخذنا قضية غزو العراق كمثال على علاقة السلطة بالرأي العام في صناعة القرار نلاحظ أن الشارع العربي والرأي العام العربي في اتجاه والسلطة العربية في اتجاه آخر ونلاحظ هنا عدم تناسق الشارع مع صانع القرار وإلا أين رد فعل السلطة؟ وما هي الإجراءات التي اتخذت حتى تتساوى الدبلوماسية العربية والسياسة العربية مع الشارع العربي؟. السلطة في الوطن العربي ذهبت إلى أبعد من أنها تتجاهل الرأي العام، إنها قامت بقمعه وإسكاته وفي الكثير من الأحيان بصناعته وتشكيله وفبركته حتى يتناغم ويتوافق مع سياستها وإرادتها. ففي أحيان عدة نلاحظ التناقضات الصارخة بين الشارع وصاحب القرار وعادة ما نجد الرأي العام يتخذ موقفا ضد قرار السلطة والسلطة تتباهى وتتفنن في تطبيق القرار وفي بعض الأحيان تتفنن في قمع الرأي العام وإسكاته وتكميمه وسجنه وينتهي الأمر في بعض الأحيان إلى منع أي هيكل أو مؤسسة تنظيمية أو سياسية أو اجتماعية تختلف في الرأي مع السلطة. الظاهرة الخطيرة التي تتفشى في العالم العربي هي ظاهرة الرأي العام "المفبرك" أو المنافق حيث إنه لا يعبر عن حقيقة وواقع الرأي العام، ويصبح رجل الشارع يدلي بآراء وأفكار ووجهات نظر غير مقتنع بها أساسا، وإنما يقولها لإرضاء السلطة لا غير، وفي هذه الحالة نكون قد وصلنا إلى مرحلة خطيرة جدا وهي الانتحار الذاتي أو أننا أدركنا مجتمعا لا يؤمن بما يقول ومجتمعا مبنيا على النفاق. وسواء في غياب الرأي العام الحقيقي الواقعي أو في ظل وجود رأي عام منافق فإن السلطة لا تستطيع أن تتفاعل مع المجتمع ومع الشعب "السلطة الحقيقية" وهنا تقل آليات التفاهم والاتصال الحقيقي الذي يؤدي إلى التفاعل الفعال بين السلطة والشعب والاستغلال الأمثل للموارد البشرية والمادية المتوفرة في المجتمع. ونختم بالقول إن الأنظمة العربية لا تجرؤ على إنشاء مراكز سبر آراء أو تسمح بإنشاء مثل هذه المراكز لأنها بكل بساطة تخاف من النتائج التي تقدمها مثل هذه المؤسسات والتي قد لا ترضيها وتفاجئ جماهيرها بحقائق صادمة.