13 سبتمبر 2025

تسجيل

بين الطابع المدني والحلول المسلحة

28 سبتمبر 2012

بالتزامن مع الإجراءات التي يحاول من خلالها الرئيس محمد مرسي أن يفك الارتباط التقليدي للدولة المصرية بالمؤسسة العسكرية تشن القوات المسلحة حملة موسعة في شبه جزيرة سيناء ضد من تصفهم بالتكفيريين، والذين تنسب إليهم المسؤولية عن مقتل وإصابة عشرات الجنود المصريين عند الحدود قرب مدينة رفح المصرية. وتذهب القيادة السياسية إلى أن الأفكار التكفيرية التي تتركز في سيناء تهدد أمن وسلامة المجتمع خاصة أنها يمكن أن تتسلل منها إلى باقي البلاد، ولهذا فإنها تتعامل معها بشدة وصلت في الأزمة الأخيرة إلى حد استخدام معدات الحرب الكاملة من دبابات وطائرات ومدرعات! فهل يعكس هذا إدراكا لطبيعة الأوضاع في سيناء، وهل يمثل هذا التدخل الأسلوب الأمثل لعلاج أزمة متراكمة شاركت الحكومات السابقة والنظام السابق بجزء كبير من المسؤولية عن تفاقمها. أول ما يلفت الانتباه إلى الطريقة العنيفة التي تستخدم في التعاطي مع هذه الأزمة أنها تأتي متزامنة مع عدد من الإجراءات التي هدفت إلى التقليل من عسكرة الحياة السياسية في مصر، بدأت بإقالة أكبر قيادتين في المجلس العسكري وانتهت بتعيين فريق كامل من المستشارين يخلو تقريبا من أي عسكري. هذه الحملة العسكرية تمثل نغمة شاذة في أداء الرئيس المدني، والذي فضل بدلاً من التدخل بأساليب القوة الناعمة، الاقتصادية والثقافية والتربوية، أن يتدخل بالقوة المسلحة، وأعلن عن مباركته لهذه العملية وإشرافه المباشر عليها، الأمر الذي يثير علامات استفهام حول دلالة اللجوء للحل الأمني في مستهل عهد يعد بالتحلي بالطابع المدني في كل ما يتعلق بقضايا الداخل. صحيح أن التشدد في مواجهة التطرف قد يحقق بعض النتائج الإيجابية على المدى القريب، ولكنه في المقابل سوف يصعب من مهمة النظام والحكومة على المستوى الداخلي في المدى المتوسط، فالخبرة المعاصرة تبين أن جماعات العنف الأيدلوجي لا تتراجع عن مواقفها خوفا من بطش السلطات بها، بل إنها تعتبر الموت في مواجهة هذا البطش استشهادا في سبيل ما تؤمن به. ويمكن في هذا الصدد استدعاء الخبرة الجزائرية، حيث أدى سيناريو الحل الأمني بالبلاد إلى أن تغرق في أتون حرب دامية استمرت لعقد كامل. ولم تهدأ الأمور إلا من خلال صيغة بديلة للوئام المدني، استوعبت طاقة العنف وسمحت للكثير من "المتشددين" بإعادة الانخراط من جديد في صفوف المجتمع كمواطنين عاديين. وحتى لو سلمنا بأخلاقية التصفية المباشرة لهذه الجماعات فإن الأفكار المتشددة التي تتبناها لا يمكن أن تجتث عمليا باستهداف أصحابها، فهؤلاء لا يمكن حصرهم على وجه اليقين، فالأفكار في النهاية هي نشاط باطني لا يفصح عن نفسه على شكل أفعال ظاهرة إلا في حالات معينة، وإذا كانت الحالة السيناوية حالة مواتية لأن معظم من يعتنقون الأفكار المتشددة يقطنون الجبال ومن ثم يسهل استهدافهم، فإن هذا الوضع لا يمثل قاعدة، فليس كل متطرف منعزلا عن جموع الناس، فهل يصبح الحل في المرحلة التالية أن يقوم النظام بعمل محاكم تفتيش تبحث في ضمائر الناس لكي تكتشف من يتبنى مثل هذه الأفكار؟ من ناحية أخرى فإن الخلفية الإخوانية للرئيس المنتخب تزيد من خطورة هذه الإجراءات المغلظة، فحملة على هذا النطاق المتسع يمكنها أن تعمق من الخلاف التقليدي بين الاتجاهات الجهادية وبين جماعة الإخوان، خاصة إذا تمت قراءتها من قبل العناصر المستهدفة من منظور هذا الخلاف الديني، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى غرس قنبلة موقوتة في بنية النظام الجديد، الذي حرص في أكثر من مناسبة أن ينفي عن نفسه ارتباطه بجماعة دينية معينة، وأكد العكس كونه تعبيرا عن كافة فصائل المصريين. العمليات الأخيرة في سيناء تهدد هذه التأكيدات وتوفر تربة مناسبة يمكن أن تستغلها بعض عناصر هذه التيارات لشن حرب مقدسة ضد جماعة تراها لا تعكس صحيح الإسلام من وجهة نظرها. من ناحية أخيرة فإن إسرائيل يناسبها جدا تلك الحالة من التفجر الأمني في سيناء، بل إنها قد تتطوع من جانبها — كي تزيد الأمور تعقيدا على نظام الرئيس مرسي— بتقديم يد المساعدة في هذه الحملة الأمنية. كما حدث خلال الأيام الماضية حينما تدخلت لتصفية مواطن مصري عبر تفجير دراجته البخارية بصاروخ موجه من طائرة من دون طيار، وقد اتهم أفراد قبيلة المجني عليه وشهود عيان الطيرانَ الإسرائيلي باستهدافه نظرا لكونه من المصنفين إسرائيليا كأحد الجهاديين. ورغم أن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي قد نفى قيام الجيش بأي "نشاط من هذا النوع" قرب الحدود المصرية، إلا أن هذا لا يغير من الأمر شيئا فإسرائيل أرادت أن ترسل رسالة إلى النظام الجديد مفادها "أننا موجودون، وأن التحرك العسكري المصري باتجاه سيناء سوف يقابل بتحرك إسرائيلي إذا لزم الأمر، وطالما أن هدفنا واحد فلا داعي للقلق من دورنا في هذا الصدد، خاصة أننا سوف نتجنب إحراج الحكومة المصرية بأن نعلن عدم مسؤوليتنا عن أعمال التفجير التي ستطال المتشددين، أما إذا كان التواجد العسكري المصري بأرض سيناء له أهداف أبعد من مواجهة المتشددين فلا بأس من التذكير بأن يد إسرائيل مازالت الطولى والدليل أننا نستطيع أن نخترق الحدود وننفذ عملياتنا من دون أن ترصدنا تجهيزاتكم". لقد كان الجميع ينظرون إلى سلوك النظام السابق تجاه سيناء وأهلها على أنه مسخر لخدمة مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل في المقام الأول، حيث كان يتعمد ألا تصل مشاريع التنمية إلى سيناء وألا تزداد الكثافة السكانية بها بما يتناسب مع مساحتها ومع أهميتها كخط دفاع أول عن الأرض المصرية. الأمر الذي وفر بيئة خصبة لنمو أفكار التشدد والتكفير. ولذا فإن المصريين جميعا، وليس أهل سيناء فقط، يتوقعون اليوم أن تكون تنمية سيناء وأمنها على رأس أولويات النظام الجديد، وآية ذلك أن تمتد مظلة الوطن إلى كل مواطني سيناء بما يشعرهم أنهم جزء أصيل من هذا الشعب، وأنهم مستهدفون بالخدمات وليسوا فقط محلا للملاحقات الأمنية أو الاشتباهات. ويقتضي هذا أن يتبنى النظام في الأزمة الحالية سيناريو يحوي القليل من العنف والكثير من نشر الوعي الديني السليم بين المواطنين، وألا يترك إدارة هذا الملف الحيوي لعناصر النظام القديم التي لا تجيد، فيما يبدو، سوى الأساليب القمعية، وأخيرا فإن من المهم أن يعمل النظام على أن يعيد للمؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر) ومن يمثلها من العلماء وضعهم اللائق واستقلاليتهم الفقهية التي تعيد إليهم ثقة الناس، وتقلل من حظوظ نشوء مثل هذه الجيوب التكفيرية في سيناء وفي بقية ربوع مصر.