17 سبتمبر 2025
تسجيلثمة صراع طائفي يجتاح الأمة العربية فكرياً وجغرافياً، وقد ازداد الأمر شراسة خلال السنتين الماضيتين بشكل لا مثيل له خصوصاً مع تصاعد الأحداث في سوريا لأسباب معروفة للجميع. ومع تزايد الصراع يتلاشى مفهوم الوطنية والمواطنة، وتعلو الحسابات الفئوية غيرها من الاعتبارات. والأقلية أو الطائفة مكون اجتماعي يشترك أفراده في أكثر من مقوم من مقومات التاريخ واللغة والعرق والدين. ولا يقصد بالأقلية الجماعة الأقل عدداً، وإنما هي المجموعة الأقل تأثيراً، والأكثر تهميشاً، والخاضعة لإرادة الجماعة المسيطرة التي تتحكم في صيرورة المجتمع. ولبنان في نموذجه ليس سوى تجمع لطوائف متعددة لا يمكن لطائفة مهما بلغ حجمها أن تنفرد بإدارة أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة بمعزل عن الطوائف الأخرى دون فائض قوة تناله. ولطالما كانت إثارة القلاقل تنطلق من الاختلافات الثقافية أو الاجتماعية أو العرقية أو اللغوية. وقد وجدت القوى الغربية في التنوع الديني الموجود في جبل لبنان وساحله أرضاً خصبة لخلق الصراع الداخلي. وقد نجحت في تحويل التنوع الديني إلى مكونات سياسية تنضح فيه الطائفية والمذهبية. وقد ترك ذلك تشوهاً كبيراً في طبيعة العلاقات التي تربط المجتمعات والطوائف اللبنانية ببعضها بشكل عام، حيث عملت على استغلال التنوعات الدينية والثقافية والاجتماعية بين الكيانات داخل القطر الواحد، وحولتها إلى تناقضات لا تقبل التعايش فيما بينها. وهكذا لعبت العوامل التاريخية وإفرزات الرعاية الخارجية للبنان دوراً أساسياً في ولادة مناخ انعدمت الثقة فيه بين الطوائف بمكوناتها الدينية والسياسية، وتضخمت الأنا الطائفية للعقل الجمعي للطوائف بحيث أصبح ربط مصير الطائفة بمثيلاتها في الدول الأخرى أمراً مُلحاً لتحقيق استمرارها وحماية خصوصيتها. ولأسباب، منها وجود القادة الدينيين والروحيين لهذا الطوائف خارج لبنان، تشكلت قناعات لدى كل طائفة، بحيث تصبح جزءاً لا يتجزأ من تفكيرها وهويتها الثقافية، كأن يقال: إن تحكم أي أقلية دينية أو عرقية أو ثقافية في بلد عربي سيكون الضامن لحقوق بقية الأقليات في المنطقة ومنها لبنان، دون أن يتم الالتفات لحقوق الأغلبية أو لقبح الوسائل التي تحتاجها الأقلية في حكمها مثل انتهاج الديكتاتورية نظاماً، وممارسة الإقصاء للأغلبية من مراكز القوة والنفوذ فضلاً عن التهميش الاجتماعي والاقتصادي. وهذا المنطق في الحقيقة لا يختلف بتاتاً عمّا تطرحه إسرائيل وتروج له في المنطقة وهي التي نشطت خلال الحرب اللبنانية على إقناع المسيحيين الموارنة أن قيام دولة مسيحية خالصة لهم في لبنان هي الضامن لبقائهم. ولا شيء قد يخدم فكرة إسرائيل العنصرية، ويعطي المبرر والشرعية لوجودها مثل وجود دويلات في المنطقة على أساس عرقي أو ديني. وتبدأ الطوائف المتضررة من أي تغير يحصل في المنطقة، بسرد مجموعة من القناعات تبرر فيها مواقفها الداعمة للمتسلط المتحكم، مثل شيطنة الحراك الثوري في البلدان التي تشهد عملا ثورياً، أو تعمد الخلط بين الإسلام السياسي المعتدل للتخويف من الحاكم القادم، أو تضخيم هواجس الأٌقليات بحيث تصبح المطالبة بالحرية والديمقراطية ترفا فكريا في مقابل حماية الهوية الذاتية. إن من شأن "التفكير الطائفي" أو منطلق "الأقلية" و "الأكثرية" تعزيز ثقافة الصراع داخل بنية المجتمع نفسه. وقد نجح هذا المنطق "الثنائية الضدية" في تكريس معادلة فلسفية، تتحكم في سلوكيات أفراد المجتمع الواحد، فأضحى الاختلاف وباء، والتطابق صحة وعافية، في حين أن الاختلاف ثراءً وخصوبة، كما أن التطابق عقماً وجموداً. ودواؤنا في لبنان والعالم العربي ليس بإقصاء الأكثرية للأقلية، أو تآمر الأقلية على الأكثرية، وإنما في التخلص من المنطق العددي في النظرة للإنسان وقيمه الاجتماعية والفكرية، والرهان بدلاً من ذلك على مفهوم العيش الواحد بين مختلف أبناء الوطن والتعالي عن الغرائز الطائفية والمذهبية الضيقة إلى أفق أرحب وأوسع فيه سعادة الجميع.