13 سبتمبر 2025
تسجيلمآزق سياسية، إرهاب مستوطن، أزمة اقتصادية ومالية خانقة، انخفاض القوة الشرائية للمواطن، براكين اجتماعية بسبب معاناة الناس في تونس من تفاقم صعوبات المعيشة، وارتفاع أسعار السلع والخدمات، والبطالة، وسياسات التخصيص في التعليم والصحة، وخصخصة القطاع العام، هذه هي المشاكل المزمنة التي تعاني منها تونس. إضافة إلى كل ذلك، طرح رئيس الدولة السيد الباجي قائد السبسي قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، الذي يتعارض مع الفقرة التاسعة من الفصل 148 الذي ينزل منظومة العدالة الانتقالية ومدتها منزلة دستورية، ويقفز على الفصل 14 من القانون الأساسي المتعلق بتحقيق العدالة الانتقالية والهادف إلى «تفكيك منظومة الفساد والقمع والاستبداد ومعالجتها بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات واحترام حقوق الإنسان وإرساء دولة القانون». ويعتبر اليسار التونسي ومنظمات المجتمع المدني أن المصالحة الوطنية يفترض أن تكون تتويجا لمسار كامل لا أن تكون منطلقا لهذا المسار، هذا فضلا عن الإشكالات الدستورية العديدة التي يثيرها مشروع القانون المتعلق بالمصالحة في المجالين الاقتصادي والمالي، لاسيَّما فيما يتعلق بالهيئة التي سيتم إحداثها بمقتضي القانون المذكور للقيام بالمصالحة والتسويات المالية. فالهيئة الإدارية يجب أن تعمل وفق قواعد الشفافية كما ينص على ذلك الفصل 15 من الدستور، وبالمقابل لا يجوز نزع قضايا هي من صلاحيات «هيئة الحقيقة والكرامة »المعنية بتحقيق العدالة الانتقالية، وإحالتها إلى هيئة لا نعرف طبيعتها القانونية، فذلك يعد بمنزلة المس بمبدأ الفصل بين السلطة الذي تم تكريسه في التوطئة وهي جزء لا يتجزأ من الدستور. وفيما أن المصالحة الوطنية، كما جاء في قانون العدالة الانتقالية تهدف إلى «تعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق العدالة والسلم الاجتماعية وبناء دولة القانون وإعادة ثقة المواطن في مؤسسات الدولة »، أصبح الرأي العام التونسي يرى في قانون المصالحة المقدم من رئيس الجمهورية والذي سيصادق عليه مجلس النواب قريباً، بأنه يتناقض مع قانون المصالحة الوطنية، فضلاً عن أنه لا يحترم أسس العدالة الانتقالية ويكرّس عدم المحاسبة لأولئك الذين ارتكبوا انتهاكات في حق البلاد واقتصادها واستولوا على المال العام، ولا يدعم ثقة المواطن في القانون، ويقدم هدية للأغنياء ورجال الأعمال الفاسدين والنهابين للمال العام المقدر بنحو 700مليار دينار(حوالي 4.6 مليار دولار)، الأمر الذي سيزيد في تأجيج الغضب الشعبي ليتيح الفرصة لليسار التونسي للاستفادة منه. ولكن يبدو أن اليسار أصيب بالعجز، حيث أخذ على حين غرة، في اللحظة نفسها التي بات مُطَالِباً منه بالتغني بمحاسن الليبرالية الاقتصادية. وفي ظل تقاسم الأدوار والوظيفة السياسية بين الرئيس الباجي قائد السبسي والشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، دفاعاً عن التوافقية بفهمها المحدود للديمقراطية، تشكلت في تونس إقطاعيات حزبية في مؤسسات الدولة، قوضت إمكانية «المحاسبة» التي تمثل عنصراً أساسيا لأي نظام ديمقراطي. فاقتسام الدولة إلى إقطاعيات بين النداء وبقية أحزاب الرباعي الحاكم، يعني بالضرورة اتفاقاً على حصانة كل قوة بالتحرك في مجالها. ولأن البرلمان نفسه صار جزءاً من نظام الإقطاعيات، فإنّه فقد دوره كهيئة رقابة ومحاسبة، بل وبات الرمز الأول للفساد في نظر الكثير من التونسيين. ويساند الغرب التحول الديمقراطي في تونس، ويدعم الشراكة في الحكم بين أحزاب «نداء تونس»، و«النهضة»، و«آفاق تونس»، و«الاتحاد الوطني الحر»، التي تشكل الائتلاف الحكومي بقيادة رئيس الحكومة السيد الحبيب الصيد، وهي أحزاب جميعها تدافع عن النيوليبرالية في الاقتصاد، وعن الشراكة الجديدة مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وعن ضمان تطوير اقتصاد السوق كي يستمر ويزدهر ويفرض نفسه. رغم أن تونس دفعت الثمن غاليًا في عهد الديكتاتورية، حين رَوَّجَ لها الغرب بأنها تمثل نموذجًا اقتصاديًا ناجحًا، واسْتُخْدِمَتْ مختبراً متميزاً للتجارب النيوليبرالية، حيث كان من شأن الجشع المالي، والفساد المتغلغل داخل شرائح البرجوازية الطفيلية المسيطرة، والنهب المنظم للمال العام من قبل رجال الأعمال الفاسدين المتحالفين مع العصابات المافياوية التي كانت تتحكم في النظام السابق، أن جعل من تونس البلد الذي تنطلق منه «ثورة الربيع العربي»، بوصفها المنطقة الأكثر اهتزازاً في العالم العربي على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وفيما كان اليسار التونسي بجميع تشكيلاته وفصائله المنظمة في أحزاب وتنظيمات سياسية، أو الثقافة اليسارية المسيطرة على منظمات المجتمع المدني، والنقابات، والنخب الفكرية المبعدة عن السلطة، ينادي تجسيد القطيعة مع نموذج التنمية السابق الذي وصل إلى مأزقه المحتوم، نجد الحكومة التونسية الحالية المدعومة من الائتلاف الرباعي الحاكم، تطبق سياسة الإصلاحات المالية التي فرضها كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تؤازرهما سياسة التبادل الحر المعتمدة في منظمة التجارة العالمية. وقد بدا اليسار متمثلاً بالجبهة الشعبية في حالة انهزام، إما عبر تحوله إلى النموذج السائد في أوروبا، وإما لحال العجز التي يعيشها عن مقاومة الهجوم الكاسح الذي تقوم به الحكومة اليمينية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية المتوحشة، والتي تريد من الشعب التونسي أن يدفع ثمن الجشع الرأسمالي الذي انطلق بلا حدود، وبلا كوابح، لاسيَّما حين طرح رئيس الجمهورية قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الذي يتناقض مع مسار العدالة الانتقالية، والذي يريد تبييض جرائم رجال الأعمال الموسومين بتهم الفساد وسرقة المال العام، بهدف إبرام تسوية مع هؤلاء لاسترجاع الدولة لما أخذ منها ووضع حد للإهدار والفساد وسوء التصرّف والابتزاز السياسي عبر توظيف هذه الملفات العالقة. وقد وجدت النقابات نفسها متمثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل في موقع دفاعي في مواجهة سياسة النيوليبرالية التي تريد من الشعب التونسي أن يدفع ثمن نتيجة استشراء البطالة، وتقلص أو زوال الضمانات والخدمات الاجتماعية، والسلع المدعمة من الدولة، ونتيجة انخفاض الأجور.علما أن الطبقات الشعبية (المتكونة من العمال، والموظفين، والأساتذة، والمعلمين، والفلاحين المتوسطين والفقراء، والمتقاعدين،)هي التي تدفع للدولة الضرائب، بينما كبار رجال الأعمال والشرائح الغنية من الطبقة المتوسطة: أصحاب المهن الحرة(الأطباء، المحامون، المهندسون)، يتهربون جميعا من دفع الـضرائب، ويمارسون الاختلاس الضريبي المتفشي بشكل كبير، بحرمان الدولة من مئات المليارات من الدنانير سنويا، من خلال إعلانهم عن دخل سنوي «أقرب إلى الحد الأدنى لأجور العمال». وهكذا يكون العمال والموظفون والأساتذة والمعلمون والمتقاعدون هم الأكثر ثراء في تونس، بالنسبة لوزارة المالية. النيوليبرالية حظيت بنفس جديد في ظل الحكومة التونسية الحالية، التي ترفض محاربة الفساد الكبير والفساد الصغير، وترفض محاربة التهرب الضريبي، لأنها إلى حد الآن لم تتخذ أي إجراءات تقنية لتعزيز المراقبة على رجال الأعمال الفاسدين، وعلى الشركات الكبرى والمتوسطة والصغرى التي لا تحصى، وعلى أصحاب المهن الحرة. وبالمقابل عملت هذه الحكومة على ضخ مئات المليارات من الدنانير لإنقاذ البنوك المفلسة، وقطاع السياحة، والمشاريع الرأسمالية المنهارة ومؤسساتها، ومنحت النواب زيادة بقيمة 900 دينار شهريا كتعويض عن الإقامة في الفنادق، في حين رفضت زيادة رواتب الأساتذة والمعلمين، وهي تماطل بصدد دفع المساعدة للعاطلين عن العمل بقيمة 200 دينار. وتشهد تونس اليوم إعادة إنتاج النظام السابق، في شكل ديمقراطي زائف، حيث تسير الحكومة في نفس الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي رفضها الشعب التونسي حين أسقط الديكتاتورية في بداية سنة 2011، وهي تريد من اليسار المتمثل في البرلمان بنحو 15 نائبا هم عدد نواب الجبهة الشعبية، أن يكتفي بالفرجة على الرأسمالية الطفيلية التي نهبت المال العام، وتوحشت في بذخها من خلال إقامة الفلل الفاخرة والقصور، والسفر في اليخوت، وبعثرت النقود في الحفلات والأعراس، وصنعت البؤس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للشعب، وفرضت القمع السياسي بواسطة أجهزة البوليس السياسي، تلك العوامل مجتمعة هي التي صنعت التربة المناسبة لنمو الإرهاب واستشرائه في تونس. وهاهي الطبقة السياسية الحاكمة بعد الثورة تُطالب الشعب التونسي بإنقاذ الرأسمالية الطفيلية، وتقتطع من لحم وعرق حياة الرجال والنساء والأطفال في سبيل ذلك. وفي الحقيقة لا يمكن الفصل بين انتصار النيوليبرالية ومشروعها التسلطي الجديد في تونس، وبين قضاء الديكتاتورية البوليسية السابقة على مكونات اليسار، رغم عراقة هذا الأخير في النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الشعبية، ومعارضته للرأسمالية الطفيلية، ومعارضته أيضاً للشركات العابرة للأوطان وسياساتها. وفي ظل العجز التاريخي لليسار عن قيادة الثورة الشعبية لتحقيق أهدافها الإستراتيجية، لاسيَّما في مجال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية من الموقع الخاضع للسيادة الرأسمالية العالمية متمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي إلى الموقع المتمرد على هذه السيادة، فقدت الدولة التونسية في مرحلة الانتقال الديمقراطي المتعثر استقلالها الحقيقي، وباتت رهينة حسابات ومصالح المؤسسات الدولية المانحة والشركات المتعددة الجنسية التي، سواء أكانت أوروبية أم أمريكية، عمدت إلى إخضاع أجهزة الدولة وترويضها. فهذه الأخيرة استغلت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تعاني منها تونس، من أجل الحصول أو الحفاظ على بعض الأسواق والتنازلات. وهذا التدخل من جانب الشركات المتعددة الجنسية، والمؤسسات الدولية المانحة، على أساس قواعد نظام العولمة الليبرالية، في شؤون الدوائر الرسمية التونسية قد ولد خلطاً بين القانون العام والقانون الخاص. وفي الإجمال، فإن الدولة التونسية أصيبت أكثر فأكثر بالضعف، بسبب تنامي الإرهاب، واحتداد الأزمة الاقتصادية والمالية من جهة، وبسبب تدخلات صندوق النقد الدولي الشركات المتعددة الجنسية من جهة أخرى، وتريد الرأسمالية الطفيلية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية أن تُحَمِّلَ الشعب التونسي، والقوى اليسارية العبء الأكبر للمصائب التي تعيشها البلاد. والحقيقة إذن هي أنه لا الشعب التونسي، ولا اليسار، لهما مصلحة في انهيار البلاد، أو في حدوث كساد شامل وعميق يدوم سنوات، أوفي إفلاس مئات الآلاف من المؤسسات الرأسمالية. بمعنى آخر يعني هذا أن مصلحة اليسار في المرحلة الحالية هي أن تحول دون أن ينهار النظام الرأسمالي القائم الآن، بل أن تُساهم في إنقاذه. هذه هي الحقيقة المُرّة التي أصبحت تُواجه القوى اليسارية المنضوية في إطار الجبهة الشعبية. الطبقة السياسية الحاكمة المدافعة عن الرأسمالية الطفيلية، ورجال الأعمال الفاسدين، تريد من خلال طرح الوضع الكارثي الذي تعيشه البلاد على جميع الصعد، أن يساهم اليسار في عملية إنقاذ الرأسمالية بشروطها، ومن دون أن تتم تعديلات في طريقة سريان الرأسمالية واتجاهاتها، في النظم التي تعمل في إطارها، أي معارضتها للإضرابات والاحتجاجات والتحركات الاجتماعية، ووقف الضغوط التي تمارسها منظمات المجتمع المدني.. لذلك أصبح على اليسار أن يعيش مفارقة غريبة: فهو التيار المناهض للرأسمالية من الناحية النظرية والأيديولوجية، لكن عليه في الوقت عينه أن يفكر في الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الخانقة التي تعيشها تونس الآن، وأن يقبل السياسات النيوليبرالية التي تريد الحكومة الحالية تطبيقها في المجال الاقتصادي، طبقاً لمتطلبات وشروط صندوق النقد الدولي. ينبغي على اليسار التونسي أن يُحدد أثناء هذه الفترة، موقفه بدقة، هل هو يريد أن يُساهم بتفكيره وسياساته وتحركاته في إنعاش الاقتصاد الرأسمالي مع فرض القيود اللازمة لتغيير الاتجاه الذي سار عليه، أم إنه مطالب ببناء يسار اجتماعي وسياسي وسط التوترات الشديدة والمخاطر، وبلورة برنامج سياسي ونموذج جديد للتنمية يدافع عن مصالح العمال والفلاحين، والموظفين، والحرفيين والمثقفين والفئات المتوسطة في المجتمع، للوصول إلى السلطة والانتقال التدريجي إلى عصر ما بعد النيوليبرالية. وما سيحدد الوجه الحقيقي لهذا اليسار هو طريقة عمله الملموسة على الأرض. فهل ستقدم الندوة الوطنية للجبهة الشعبية إجابات حقيقية على هذه التساؤلات؟