12 سبتمبر 2025
تسجيلما بين حرارة شمس متلألئة في سماء الدوحة وقسوة صقيع متجمد في الأزقة المتناثرة في الليالي الباردة، المتفرعة من ضواحي فرانكفورت، يرسم الكاتب لوحة فنية مفعمة بالأشكال والألوان على رقعة من مساحة إنسانية مفرطة، في رواية تضم بين دفتيها مساحة بحجم الوطن؛ إنها رواية "شتاء فرانكفورت" للروائي القطري جمال فايز. فيما لا يزيد عن مائة وخمسين صفحة استطاعت الرواية أن تجعل من قطر بحروفها الثلاثة نغماً ينطلق من المحلية إلى العالمية ليجسد لحناً للهوية الوطنية القطرية يستمع إليه كل من يلتقي سائحا أو مسافرا قطريا في أرجاء المعمورة، حيث يحمل معه عرس المحبة الكروي الذي ستحتضنه قطر في أرض دوحتها الخضراء في خريفها التالي. ولم يكن أحمد بطل الرواية إلا ذلك الحمام الزاجل، الذي حمل معه رسالة المحبة إلى أصدقائه في فرانكفورت الذين غمروه حبا فأغرقهم بها إخلاصا ووداً، أنشد لهم من تراثه القطري أبياتا من الشعر النبطي عزفت ألحانها ديلما على كيتارها، فمزجت بين صوت أحمد الشرقي وأوتارها الغربية لحن التآلف والترابط الإنساني. تجسدت عناصر الرواية المتمثلة بالزمان والمكان والحبكة والشخصيات من خلال نسيج متماسك ومتداخل تداخل الأفكار والأحداث نفسها، فكانت هذه العناصر حاضرة في "شتاء فرانكفورت" حضور الثلج نفسه في شتائها القارس. فعنصر المكان بتنوع تضاريسه وتعرج أزقته كان ماثلا بقوة، انطلاقا من الفندق القابع على طرف المدينة الذي آثر أوليفر التنازل عن حلمه بالسكن فيه ولو لليلة واحدة من أجل ألا يترك كلبه ينام أمام الباب فيرتجف بردا، مرورا بالأزقة المظلمة التي تربط فرانكفورت بضواحيها المتناثرة هنا وهناك، والتي كان أحدها مسرحا لسرقة كل ما بحوزة أحمد من نقود وملابس وأوراق ثبوتية، وصولا إلى ساحة الاستعراض المخصصة لاستعطاف المشاهدين لدفع مزيد من النقود ثمنا لما شاهدوه من حركات بهلوانية للكلب أدريان وصاحبه أوليفر، اللذين يبتغيان من ورائها حصد مبلغ يكفيهما ثمن وجبة أو وجبتين، عوضا عن التسول المذل الذي يقوم به مشردون آخرون آثر أوليفر بنفسه العفيفة ألا ينسج على منوالهم. أما عنصر الزمان فقد أثبتت رواية "شتاء فرانكفو رت" أنه ليس من الضروري أن تمتد الرواية لسنوات طويلة لينطبق عليها هذا المسمى، بل إنها كسرت حاجز الزمن واكتفت بأيام قليلة معدودات تحتوي على أحداث مكثفة ومتراكمة تؤهلها لتكون رواية مكتملة الأركان، فتسلسل الأحداث وتكثيفها والغوص في تفاصيلها وتوصيفها الدقيق لصغائر الأمور من خلال ربط متماسك في الجمل والعبارات، كل ذلك جعل من انسيابية السرد الذي تميزت بها الرواية حافزا يشجع القارئ على متابعة الأحداث واحدا تلو الآخر للوصول إلى ختام المبتغى. لقد وظف الكاتب أكثر من شخصية في استخدام ضمير المتكلم، ولم يكتفِ بإسناد الدور إلى لسان حال الكاتب أو إلى شخصية أحمد الذي يعتبر البطل والشخصية الرئيسية في الرواية، بل أعطى هذا الدور أيضاً لكل من أوليفر بشخصيته الثابتة وآيدن بشخصيته المتغيرة وغيرهما أمثال دانيال المتمسك بنهجه وتايلر المتردد بتفكيره، كما أن أسلوب الحوار بين الشخصيات ساعد الكاتب في إيصال ما يدور بين عقلية الأشخاص أنفسهم، وخاصة الفتية الثلاثة الذين جعلوا من السرقة هواية لهم، حتى الحوار الداخلي والمناجاة الداخلية التي قام الكاتب باستثمارها من خلال شخصنة الكلب أدريان، أعطت تميزا واضحا للرواية من خلال ما يمكن أن يجول من مشاعر وعواطف الحيوانات تجاه الإنسان من جهة، في مشهد تعاطف الكلب مع الظرف الذي وقع فيه أحمد، أو تجاه بعضها البعض من خلال الشعور الغريزي الجميل الذي أفرزه تعاطف الكلب مع القطة التي سرقت قطعة اللحم لتطعم بها أطفالها، حيث قام باللحاق بها ليستعيدها، وعندما وجد أنها أخذتها لصغارها تركها لهم وعاد أدراجه لصاحبه مضربا عن الطعام في حبكة لم تنفك عقدتها إلا عندما أعاد آيدن جميع المقتنيات إلى أحمد، ليعود أدراجه إلى قطر موطن الطفولة والشباب في مشهد وداع مؤثر. رواية "شتاء فرانكفو رت" بغلافها الأنيق وأسلوبها المنساب كانسياب النسيم في ربيع الدوحة وأفكارها المشبعة برقة الإحساس وفيض الوجدان ترتمي بين يدي القارئ، وتأبى أن تغلق صفحاتها دون أن تتأكد من أن عينيه قد أتمتا قراءتها قبل أن تغطا في نوم عميق.