06 أكتوبر 2025

تسجيل

التناقض الصحي بين التكلفة والفعالية

28 يوليو 2013

ليس صحيحا أنه كلما ارتفع الإنفاق تحسن الأداء وتطورت المؤشرات في الصحة وغيرها. تكلفة الصحة باهظة بسبب ارتفاع تكلفة الاستشفاء وكافة أنواع المعالجات المخبرية التي تتطلب قدرات تقنية متقدمة في الآليات والجهاز البشري وغيرها. حتى في الدول التي عرفت نموا قويا، لم تتقدم المؤشرات الصحية بالوتيرة نفسها لأن الصحة ليست موضوعا اقتصاديا فقط بل إنساني واجتماعي أيضا. تحديات الصحة كبيرة وخطيرة ومن لا يواجهها يسيء إلى مجتمعاته من كل النواحي حتى الاقتصادية منها. لتقوية الأنظمة الصحية، على الحكومات التحرك في اتجاهات ثلاثة أي تحسين المؤشرات، واعتماد مصادر التمويل المناسبة في التكلفة والأمد، وتطوير المؤسسات المعنية من مستشفيات ومختبرات وجامعات ومؤسسات عامة معنية بالرقابة والإجراءات ونوعية الأداء. النظام الصحي الفاعل هو الذي يستطيع المواطن الاستفادة منه أي "ذو تكلفة مقبولة"، أي يكون فاعلا ويقدم خدمات بنوعية مرتفعة. هنالك دول قليلة تنعم برؤية صحية متكاملة تريح المواطن ولا ترهق الموازنات. الجميع يتكلم عن الأنظمة الصحية الكندية والبريطانية والكوبية كمضرب مثل للأنظمة الفاعلة ذات التكلفة المتوازنة.  من المفروض أن تسعى كل دولة إلى تحسين مستوى المؤشرات الصحية، حماية الأفراد والعائلات في وجه التكلفة العالية للخدمات الصحية والاستشفائية والمخبرية والسعي الدائم إلى تحقيق فعالية الإنفاق بحيث لا تهدر الأموال أو تنفق على قطاعات أخرى أقل أهمية تسمح للفساد بالانتشار بشكل مضر. كل منطقة تعاني من انتشار أمراض معينة تبعا لطبيعة الأرض والمناخ والأوضاع الصحية وطرق المعالجة وغيرها. في دول أوروبا الشرقية ووسط آسيا مثلا، تنتشر أمراض القلب غير المعدية لكنها قاتلة للشخص إذا لم تتم معالجتها في الوقت المناسب. تكلفة عمليات القلب مرتفعة، فمن يدفع القطاع الخاص أم الدولة؟ هنالك ملايين من الناس غير مضمونين، وبالتالي يموتون قبل إجراء العمليات المتخصصة. الموازنات العامة لا تكفي لمعالجة مشاكل السكان الصحية خاصة في وقت تعاني الدول من العجز المالي وتراكم الدين العام. لا ينجح القضاء على أمراض القلب فقط من العمليات الجراحية والمعالجات الطبية بل يجب الذهاب إلى مصدر المشكلة أي تفشي التدخين واستهلاك المشروبات الروحية بكميات مضرة. مواجهة واقع الضغط المرتفع والكولسترول عبر الغذاء والرياضة كما الأدوية تساهم من دون شك في تخفيف حوادث أمراض القلب.  تعاني إفريقيا من أمراض متعددة تنتشر بسهولة وسرعة كالملاريا والسل والسيدا وهي تتحكم بحياة المواطنين وإنتاجيتهم وعمرهم المرتقب. 99% من حالات الموت من هذه الأمراض تحصل في الدول الفقيرة. ضعف القوة الشرائية كما حجم الموازنات العامة المتواضع يجعلان من مهمة القضاء على هذه الأمراض صعبة جدا. في المنطقة العربية تعاني المجتمعات من أمراض مختلفة آخرها السمانة بسبب المأكولات الجيدة وعدم التنبه إلى مساوئ الإفراط في الطعام وعدم اللجوء إلى النشاطات الرياضية لحرق بعض السمانة الضاغطة على القلب والحيوية، لذا ترتفع تكلفة الاستشفاء دون أن تتحسن المؤشرات. تحتاج المنطقة العربية كما غيرها إلى حملات توعية كي يقدر المواطن خطر السمانة المفرطة التي تعجل في الموت والأمراض السريرية. في كل حال تضرب السمانة إنتاجية العمل وبالتالي تخفض نسب وفرص النمو كما التنمية المستدامة.  بالإضافة إلى أمراض القلب، هنالك سببان آخران كبيران لحوادث الموت في أوروبا وآسيا الوسطى هي ارتفاع نسبة وفيات الأطفال أي الموت قبل الـ 28 يوما من العمر بالإضافة إلى حوادث السير الناتجة أصلا عن سوء استهلاك الكحول والقيادة بسرعة مرتفعة. تبقى الوقاية أفضل من العلاج بحيث يثقف المواطن بشأن مخاطر القيادة تحت تأثير المشروبات وعدم الاهتمام بالرياضة التي تبقى الدواء الأفعل لمحاربة الكولسترول. جميع الدول اليوم تسعى إلى محاربة استهلاك التبغ لكن المواطنين يتجاهلون النصائح في العديد من الأحيان رغم الضرائب المرتفعة المطبقة على استهلاكها. المدمن لا يخشى الضرائب وهو مستعد بالتضحية بأمور أهم كي يبقى على استهلاكه المضر. الإدمان على الكحول أو المخدرات أو الدخان أو غيرها تقيد حرية الإنسان الذي يصبح عبدا لها تسيره في حياته وتعجل في مماته وتسيء إلى مستوى معيشة العائلة التي تنسخ أحيانا هذه العادات. انتقال الإدمان من الأهل إلى الأولاد ليس استثنائيا بل يحصل في كل المجتمعات بسبب الجو العائلي والعلاقات داخل المنزل وما يراه الأولاد في حياة أهلهم فيحاولون نسخها بكل تفاصيلها.  تمويل المعالجة الصحية يأتي من مصادر قليلة منها الضمان الصحي العام وشركات التأمين الخاصة التي أصبحت مكلفة في أسعارها ومعقدة في شروطها. هذا بالإضافة إلى التمويل المباشر من المواطن الذي يشتري أدويته ويدفع فاتورة المعالجة الطبية والأدوية وأحيانا الاستشفاء والتحاليل المخبرية. في الدول الصناعية تكلف الصحة حوالي 17% من مجموع الإنفاق العام مقارنة فقط بـ 8% لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. هذا يعني أن العائلات والأفراد في المنطقة العربية يغطون 40% من مجموع الإنفاق الصحي مقارنة بـ 14% في الدول الصناعية. ينتج عن هذه الحالة عدم قدرة العائلات العربية على الحصول على المعالجات الصحية المناسبة أو تأجيلها بسبب ارتفاع التكلفة. أيهما أفضل النظام الغربي أو العربي؟ في المبدأ سيقع الثقل إما على الموازنة العامة والعجز والدين العام أو على موازنات الأفراد المتواضعة فيرهقها. أيهما نفضل؟ أيهما أفضل لتحسين مستوى المؤشرات الوطنية الصحية العامة؟ في رأينا من الخطأ تحميل المواطن جزأ كبيرا، إلا أن عليه أن يتحمل الجزء الأدنى كي لا يهدر الإنفاق على معالجات غير ضرورية.  في سنة 2011، أنفقت الولايات المتحدة 2.7 ألف مليار دولار على الصحة أو 18% من الناتج دون أن يحصل الأمريكيون على تغطية صحية مناسبة وفاعلة. يبقى ملايين المواطنين من دون تأمين. كانت حصة الحكومة النصف، مما يدفعها إلى التقصير في ميادين أخرى مهمة كالتعليم والبنية التحتية. هذا هو سبب وضع الرئيس أوباما برنامجه الصحي الذي يهدف إلى تخفيف الإنفاق العام مع رفع الفعالية، إذ إن التضحية بالأخيرة مضرة. من أهم ركائز برنامج أوباما الفرض على الشركات التي تشغل 50 عاملا وما فوق لـ 30 ساعة في الأسبوع أن تؤمن لهم التغطية الصحية بدأ من سنة 2014. أما الشركات المخالفة، فتغرم بألفي دولار عن كل موظف غير مضمون. لا يمكن أن يكون برنامج أوباما أسوأ من الواقع الحالي.  هنالك وقائع مهمة تفسر العلاقة بين البحوث والنتائج. في الدول الصناعية لم ترتفع المؤشرات الصحية بفضل التقدم التكنولوجي بل بفضل تحسن التغذية وارتفاع الدخل الفردي وتحسن نوعية مياه الشرب كما الشبكات الصحية في امتدادها وفعاليتها. يقول الاقتصادي "فوغيل" إن نصف الانخفاض في نسبة الوفيات البريطانية و70% من الانخفاض في النسبة في أمريكا حصلت في وقت لم تكن الأدوية فيها متطورة. أما في الدول النامية هنالك تأثير أكبر للأدوية ودورها في معالجة الحاجات الصحية. لكن المشكلة تكمن في أن الشركات غير مهتمة بتطوير الأدوية التي تهم فقط الدول الفقيرة بسبب ضعف قدرتها الشرائية. لذا على الدول النامية أن تعدل هيكليات موازناتها عبر تخفيف الأجور والإنفاق الجاري وتعزيز الإنفاق على الأدوية والتطعيم الوقائي والقيام بالزيارات الطبية إلى المدارس وتحسين الأداء الصحي عبر تسريع الوصول إليه كما تطبيق المعالجات المناسبة. تبقى مهمة إشراف الدولة على جودة الأدوية والسلع الغذائية ضرورية لغياب البديل شرط تطبيق العقاب الصارم في وجه المخالفين.