19 سبتمبر 2025
تسجيلالأحزاب العربية والإسلامية على اختلاف ألوانها كذا النخب العربية كانت ولا تزال ترى أن الحدود السياسية بين الدول العربية وقفت حاجزا أمام تقدم الشعب العربي، وأن من قام برسم هذه الحدود مازال حيا وفاعلا، ولعله يضحك في قبره إذا ما نظر إلى ما فعلت يداه إلى يومنا هذا. مرت عقود على نشأة هذه الدول، وغالبا ما يجد أهلها صعوبة في التقبل الوجداني للحدود السياسية التي لم يُراع فيها عند وضعها تاريخهم الجغرافي والثقافي والاجتماعي، فبين لحظة وأختها تمزقت أواصر القربى وروابط الدم والتاريخ والجغرافيا وتحولت المنطقة إلى دول رسمت حدودها على الورق قبل أن تجد تطبيقها على الأرض سريعا بفعل القرار السياسي للمنتدب الأجنبي. الحلم العربي كذا الإسلامي كانا يتطلعان دوماً إلى يوم تتحرر فيه الشعوب العربية من نير الاستعمار وأذياله فيعاد تصحيح التاريخ الذي انحرف كثيرا عن مساره في هذه المنطقة. الفرق بين الأحزاب العربية والإسلامية تجلت في نظرة الإسلاميين إلى الأمور من خلفية أوسع عن نظرائهم القوميين، هم يرون العرب جزءاً من أمة واحدة قسمها المستعمر، في حين الأحزاب القومية ترى العرب أمة من دون الناس، لهم هويتهم المستقلة التي استغلتها القوميات الأخرى مثل التركية والفارسية لإقامة إمبراطورياتها. الفرق لم يكن كبيراً طالما أن المصيبة جامعة، من هنا ولد المؤتمر القومي الإسلامي الذي أراد أن يختزل الخلاف ويضيق المسافة بين الأحزاب القومية ونظيرتها الإسلامية، وقد أدى قسطاً من دوره. دارت الأيام، وبدأت الانتفاضات العربية ودعمها الإسلاميون بقوة حيث وجدوا فيها المخلص من تبعات الاستعمار والعودة من جديد إلى مسار التحرر الوطني عبر استعادة الأمة لهويتها الجامعة ولدورها في اختيار نظمها وحكامها. كانت الأحزاب القومية مترددة ومنقسمة على نفسها انقساما جغرافيا وطائفيا. وقد تأخرت في تصنيف التحولات في المنطقة، منهم من وجد فيها استعادة الأمة لحقها في التحرر، وأغلبهم رأى فيها إعادة صياغة المنطقة من جديد على قواعد ترمم الاستعمار بعد التحولات الدولية والإقليمية والتغييرات التي استجدت منذ زحف مركز الثقل الدولي من أوروبا إلى أمريكا، وفي لحظة أفول تشهدها الولايات المتحدة اليوم كقطب دولي أوحد يتفرد بمصير الكرة الأرضية إلى عالم جديد تتعدد فيه الأقطاب، وإن كانت بدرجة أقل من القوة. هنا نتحدث عن قوى جديدة صاعدة، متقاربة من حيث النفوذ والقوة وسرعة الصعود. وهي وإن كانت تعلم أنها لن تصل إلى المستوى الذي تربعت على عرشه الولايات المتحدة إلا أنها قادرة على إزعاجها في مناطق نفوذها، بل قادرة على سلبها بعض مناطق النفوذ كما تسعى اليوم روسيا وإيران في الشرق الأوسط.اختلف الإسلاميون والقوميون تبعا لتحليلاتهم وقراءاتهم المختلفة لحقيقة ما يجري في المنطقة، وما كان حلم الجميع في التحقق تحول إلى مثار شك وريبة؛ إذ لم يعد إسقاط الحدود هو الهدف، وتحول تكريسها وحمايتها هدفا بحد ذاته، يحفظ ما تبقى من هوية الأمة، هكذا أعادت كثير من النخب القومية والإسلامية رؤيتها للأوضاع وقيمتها مع عودة الصراع بين الطرفين بين مؤيد لبعض النظم المتسلطة التي تمارس القتل المنهج وتنتهج الطائفية في إقصاء معارضيها وترفض أي تحول نحو الديمقراطية أو إحداث عملية إصلاح حقيقية في بنية الدولة.نجحت النظم السلطوية في إلصاق صفة الإرهاب والتطرف بحق أي مناضل يسعى إلى التغيير. كما نجحت في إحداث شرخ داخل جبهة النضال القومي والإسلامي ومنحت عن سابق قصد وتخطيط لقوى "الإسلام المتشدد" التمدد والحيلولة مكان الإسلام المعتدل حتى تضرب الجميع وتفرض معادلتها على الشعوب كما فرضتها على المجتمع الدولي من قبل: "إما نحن وإما الإرهاب" ثم سوقت نفسها أنها قادرة على استئصال الإرهاب والتطرف نيابة عن الغرب شريطة غض الأخير نظره وعدم إزعاج النظم مجددا بالمطالبة بتغييرات وإصلاحات لا تروق لها على الأقل في هذه المرحلة.من نهض اليوم لحمل راية القوميين والإسلاميين المعتدلين هو تنظيم داعش. لقد أزال بالفعل الحدود بين العراق وسوريا، وهو على طريق إنشاء دولته على أنقاض دولتين من زمن الاستعمار. وما كان حلما يوما ما تحول إلى كابوس مقلق للجميع. لقد بات التطرف الديني وجيوش القطاع الخاص التي حلّت بديلا للجيوش الوطنية هي صاحبة الكلمة العليا في الميدان. وهي جيوش لا تؤمن بالوطنية وإن ادعى بعضها ذلك، كما أنها جيوش طائفية بامتياز، تغذيها جهات تعتمد الفرز المذهبي والديني منهجا في تغيير وجه المنطقة لتوسع نفوذها به.اليوم تتغير المنطقة، لكن ليس كما كان يحلم الجميع. تزول الحدود لا من أجل إعادة مسار التاريخ إلى وضعه الصحيح، وليس لإذابة الفوارق المذهبية بين أبنائه، وليس إعلانا لمبادئ تحرر جديد، وإنما لتكريس وجه التطرف والتقوقع المذهبي والديني، وإيذانا بعهد من التبعية الخارجية والقمع والاستبداد المتنوع داخلياً بين أنظمة قاتلة وجيوش مرتزقة تجوب البلدان، ودول إقليمية ناهضة تريد أن تستثمر نهوضها بين طوائف وشعوب المنطقة.