19 سبتمبر 2025
تسجيلفي أعقاب الانقلاب على النظام الشرعي المنتخب جرت محاولات دؤوبة لإعادة تعريف مفهوم الأمن الوطني المصري، ليشير إلى معنى يتعلق بالحفاظ على مصالح دول أخرى وليس إلى المصالح المصرية.ولا يمثل هذا الانحراف في تعريف الأمن القومي أمرا جديدا، فقد كان هذا المنطق المعكوس سائدا في عهد مبارك، الذي فهم الأمن القومي على أنه حماية الترتيبات الإقليمية التي تحقق مصالح إسرائيل، وفي إطار هذا التصور مارس مبارك مجموعة من الإجراءات التي استهدفت ضمان أمن حدود إسرائيل الجنوبية وشملت ضبط المتسللين والتحكم في الحركة عبر معبر رفح، وهدم الأنفاق، والأهم من كل ما سبق خلق رأي عام داخلي غير متعاطف مع المقاومة الفلسطينية. بل إن البعض ذهب إلى أن الإبقاء على الأوضاع الاقتصادية المتردية، وعدم الرغبة في تدشين تنمية حقيقية في شبه جزيرة سيناء كانت إجراءات مقصودة لحماية الأمن القومي لإسرائيل.ولذا فقد كانت الأسئلة التي يثيرها مثل هذا الوضع الشاذ تتعلق بمدى معقوليته، إذ كيف يعقل أن تقوم دولة بحماية الأمن القومي لدولة أخرى يفترض أنها في حالة عداء معها؟ ولكن اعتناق تصور سلبي للاستقرار صور لهذا النظام أن التهديد الوحيد لأمنه القومي يتمثل في اضطراره للدخول في حرب مع إسرائيل، ومن هنا فقد اعتبر أن كل ما من شأنه أن يجنبه التورط في هذه الحرب يصب في صالح الأمن القومي، حتى لو كان يتضمن الحفاظ على أمن إسرائيل أولا. بعد انقلاب الـثالث من يوليو عادت القيادة السياسية (الانقلابية) لتبني منطق أن الأمن القومي يتحدد خارج مصر، ولكن هذه المرة لدى أنظمة الخليج المؤيدة والممولة للانقلاب، وذلك في مقابل وعود لفظية من قائد الانقلاب بوضع قدرات القوات المسلحة رهن إشارتها بحجة أن العدوان عليها يمثل تهديدا للأمن القومي المصري! هذه الطريقة في الحديث عن الأمن القومي تؤكد أن الخلل في تصوره مازال قائماً، فهو تصور يحدد الأمن وفقا لاعتبارات مصلحية مؤقتة، وليس وفقا لاعتبارات إستراتيجية دائمة. هذا وتجدر الإشارة إلى أن حديث الانقلاب عن مساعدة الدول "الخليجية" لا ينطلق من اعتبارات قومية أو عروبية، فلو كانت ثمة ملامح قومية في خطاب النظام الجديد، لما حظي بدعم الأنظمة الخليجية على هذا النحو، فهذه الأنظمة كانت مشكلتها الكبرى مع نظام عبدالناصر تتلخص في أفكاره القومية ومحاولته فرض الوحدة عليها. الأمر نفسه بالنسبة للقوى الغربية التي كانت ومازالت تعتبر الأنظمة القومية أحد مصادر الإزعاج في السياسة الإقليمية للمنطقة، كما أن تجربتها الملتهبة مع النظام الناصري لا تجعلها تتسامح مع ظهور قيادات قومية جديدة تسبب لها مشاكل إضافية. وتتلخص رؤية نظام الانقلاب في عبارة "مسافة السكة" التي أكد عليها قائده في أكثر من سياق، والتي تترجم رؤيته للأمن القومي على أنه يتحدد حسب حاجة الأنظمة الممولة، لمساعدتها على التوازن مع مصادر التهديد المحيطة بها، وليس وفقا لأي اعتبارات ذاتية تخص الشأن المصري الخالص. الفارق بين نظام الانقلاب ونظام مبارك يتعلق فقط بدرجة الجرأة، فنظام الانقلاب يذهب شوطا أبعد في تشويه مفهوم الأمن القومي بإظهار استعداده لتوريط القوات المسلحة خدمة لمصالح الممولين ودفاعا عنهم إذا لزم الأمر. وقد قدم نظام الانقلاب لمموليه البرهان على جديته في تبني هذا التصور من خلال أسلوبه العنيف في حسم الملف السيناوي، ومن خلال طريقة تخلصه من معارضيه المؤيدين للشرعية داخليا، ففي الحالتين تم استخدام القوات المسلحة في إطار عمليات عنف لا تندرج في نطاق اختصاصاتها، وخارجيا من خلال قيامه بتشكيل وحدات التدخل السريع المعدة للتعامل مع قضايا الإرهاب في دول أخرى، وعليه فإن نظام الانقلاب ربما يطرح نفسه كوكيل عن الممولين في مواجهة الجماعات المسلحة في المنطقة (مثل داعش والقاعدة) والتي تظهر الولايات المتحدة وإسرائيل (فضلا عن أنظمة الخليج المؤيدة للانقلاب) رغبة ملحة في التخلص منها.وفي إطار هذا التصور لمفهوم الأمن القومي الذي يقوم على رعاية مصالح الممولين ومن ضمنها مكافحة الإرهاب، والتصدي للجماعات المسلحة يتوقع البعض أن يكون الصمت الذي واجه به السيسي السؤال عن احتمال التدخل في ليبيا وفقا لنظريته حول "مسافة السكة" ربما يكون صمتا بمعنى الإيجاب وليس الإحجام عن الرد، فالنظام الحالي (أو المحتمل إذا أخذنا في الاعتبار أن هناك تنافسا انتخابيا غير محسوم!)، استعاد الدور الذي كان يقوم به مبارك كحامٍ للاستقرار، وأضاف إليه استعداده التدخل بالقوة المسلحة إذا لزم الأمر، وهذا الدور ربما يكون قد بدأ التورط في تفاصيله في إطار الملف الليبي.وعند هذه النقطة لا يبدو الأمر على أنه مجرد إعادة تعريف للأمن القومي المصري، بقدر ما يبدو على أنه تهديد واضح لأمن البلاد وتوريط لقواتها المسلحة خدمة لمصالح الغير، فهل ستحتمل البلاد هذه المغامرات المتهورة على المستوى الخارجي في وقت لم تلتئم فيه جروحها التي تسبب فيها الانقلاب داخليا؟