13 سبتمبر 2025
تسجيلكانت الحملة الانتخابية الرئاسية في مصر كثيرة الدلالات والرموز، وكحملة أولى من نوعها لم تكن ناجحة فحسب، بل نموذجاً في التواصل بين المرشحين والجمهور، لذلك يعتبرها كثير من المراقبين متقدمة في التأسيس لممارسة ديمقراطية غير بعيدة عن المقاييس المتعارف عليها، فعدا البرامج المتمايزة والمتكاملة في رصدها طموحات المجتمع وتوقعاته، كانت المخالفات لافتة في محدوديتها، وكان دور الإعلام بارزاً فيها إذ أضفى دخول قنوات فضائية جديدة مزيداً من الحيوية إذ وضع المرشحين تحت الضوء في حوارات صريحة بل محرجة أحياناً. نجحت الحملة ونجح الاقتراع، وأبدى الجميع مسبقاً قبوله النتائج، ولم يكن هناك تزوير أو شبهة تزوير، ما يشكل قطعا حقيقيا مع الماضي، وهذا في حد ذاته إنجاز لابد أن ينسب إلى "ثورة 25 يناير" بمختلف تياراتها وأطيافها، بمعزل عمن استثمرها وقطف ثمارها، أو صادرها واختطفها، ذاك أن التغيير كان حتميا، وكما أن المعركة الانتخابية علمت المصريين الكثير مما لم يكونوا يعرفونه عن بلدهم ومجتمعهم ومشاكلهم وكذلك عن المرشحين، كذلك تعلم هؤلاء أنفسهم الكثير أيضا ويكفي ان الجميع كان يقول صباح الثالث والعشرين من مايو 2011 ان هذه الانتخابات الأولى منذ عهد الفراعنة، وفي ذلك إشارة الى جسامة التجربة، وإلى كسر احد "التابوات" المتوارثة التي كانت تقرر بحسم ان مصر لا يحكمها إلا "فرعون"، أي حاكم غير منتخب. لعل الخرافة الثانية التي انتفت مع هذه التجربة، تلك التي كانت تفيد بأن شعب مصر غير مؤهل للديمقراطية، لا ثقافة ولا ممارسة، والأكيد أن ما حققه حتى الآن لا يعدو كونه تجربة، إلا أنه أقبل عليها وخاضها على أفضل وجه، فكان أداؤه أفضل من أداء العديد من أعضاء مجلس الشعب سواء بتصرفاتهم الفردية والشخصية أو بالاقتراحات التشريعية التي أعطوها أولوية لا تستحقها. كان المحللون متفقين إلى حد كبير على أن طبيعة الانتخابات التشريعية مختلفة عن تلك الرئاسية، وقالوا إن الاعتبارات المحلية، العائلية والعشائرية، تلعب دورا حاسما في الأولى، في حين أن الثانية تعكس اصطفافات على المستوى الوطني العام، بل توقعوا أن تخضع اتجاهات التصويت الرئاسية لمعايير، منها شخصية المرشح وحسن إدارة حملته وشبكة العلاقات التي يقيمها خلال جولاته على المناطق، فضلا عن برنامجه، وعلى ذلك فإن نتائج الرئاسيات لابد أن تأتي بتصور آخر لما كانت عليه نتائج التشريعيات. لكن، في النهاية تغلب الواقع ومنطقه على التحليلات كافة. هذا الواقع يفيد بأن مصر مصران، وأن هناك انقساماً في البلد بين رؤيتين، أو قل بين طرفين يمثل كل منهما صراعا للآخر، ولكل منهما حججه، لذلك ارتسم الخيار بين "الإسلامي" و"الفلول" وفقاً للتصنيف الشائع شعبيا، ولم يفلح التيار الوسطي في فرض نفسه على المنافسة النهائية، قدم "الإسلامي" نفسه، ممثلا بحزب الحرية والعدالة المنبثق من جماعة "الاخوان المسلمين"، على أنه قوة جديدة لم يسبق أن جربت في الحكم، وقدم "الفلولي" نفسه باعتباره أخذ علماً بما حصل من تغيير وأنه لا يزال الأقدر على استعادة الاستقرار سواء بمواجهة المشاكل الاقتصادية أو بطمأنة مؤسسة الجيش والقوى الدولية صاحبة المصالح، والمعنية بالاستقرار في مصر. أما الوسط فتمثل عملياً بثلاثة وجوه: عمرو موسى الذي ظهر خلال العهد السابق لكنه تمايز عنه معظم الأحيان، وعبدالمنعم أبوالفتوح "الاخواني" المنشق الذي لم يبد مقنعاً بليبراليته، وحمدين صباحي الذي تمايز عن الخط الناصري التقليدي واستطاع أن يبرز كقوة سياسية جديدة تستقطب المؤيدين أفقيا وعموديا، وسيكون لها شأن في المشهد السياسي المصري مستقبلا إذا واظب صاحبها على العمل متخطيا إطار حزبه. ومن الواضح أن هذه الرموز الوسطية لم تتمكن من إحراز تغيير للاستقطاب بين التوجيهين الرئيسيين، علما بأن مصر كانت تحتاج للسنوات الأربع المقبلة رئيسا حكما لتمرير الاستحقاقات الصعبة ككتابة الدستور الجديد وبناء علاقة مستقرة مع الجيش. في نهاية المطاف، انتصرت "الماكينة" الانتخابية الأقوى، فجماعة الاخوان حشدوا كل رصيدهم البشري، والفلول أوقظوا كل الشخصيات المفتاحية في مختلف المناطق وهي التي كانت تعمل في حملات الحزب الوطني (الحاكم سابقاً) وقد أثبت هذا التكتيك جدواه في صنع نتائج الدورة الأولى، أي أن "الماكينة" عوّضت محمد مرسي الخلل الذي طرأ على شعبية الاخوان جراء المواجهة بينهم وبين المجلس العسكري ولانتقادات التي اتهمتهم بالاستئثار والاستحواذ على مؤسسات الحكم. بل انها عوّضت أحمد شفيق التأخر في بدء حملته وانطلاقه من وضعية المستبعد والمشكوك في سلامة ترشيحه إلى الصعود كمنافس قوي للخصم الإسلامي، ويمكن القول إن هذه المنافسة تحديدا هي التي لجمت إقدام النظام السابق على أي انتخابات مفتوحة وحرة، سواء كانت تشريعية أو رئاسية، وبالتالي فإن نتيجتها ستظهر إلى أي حد كانت مخاوف النظام السابق صائبة، علماً بأن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه تمثل في محاولة توريث المنصب الرئاسي، فكان أن خسره وخسر إمكان توريثه وقد يؤدي مجرد الخوف من إعادة إنتاجه إلى خسارة أحد أبرز رجاله في الدورة الثانية. لعل الخيار الصعب بين الاتجاهين يفسر نسبة الإقبال المتواضعة على التصويت مقارنة بما سجلته الانتخابات التشريعية، هناك توقعات بأن ترتفع هذه النسبة في الاقتراع الحاسم، والسؤال المطروح الآن: كيف ستتوزع الأصوات التي نالها المرشحون الثلاثة الوسطيون بغض النظر عما إذا أعلنوا أو لم يعطوا تأييدهم لأي من المرشحين الباقين في السباق، فناخبو الوسط يرفضون "الفلولي" بمقدار رفضهم لـ"الإسلامي"، وعليهم أن يختاروا، فمنهم من يعتبر انه يجب دفع "منطق الثورة" إلى أقصاه وهذا في مصلحة مرسي، لكن هناك من يفضل تحذير الاخوان وتأجيل وصولهم إلى الرئاسة وهذا يحقق مصلحة شفيق كل شيء سيتوقف على مبادرات الاثنين لطمأنة المجتمع خلال الفترة الممتدة بين الدورتين.