14 أكتوبر 2025

تسجيل

منظومة المفاهيم أساس التنمية المستدامة

28 أبريل 2019

الاقتصاد الرواندي حقق طفرة هائلة في نمو الإنتاج   التنمية المستدامة غاية تسعى إليها الدول والمجتمعات والأفراد، سعي يقرأ التجارب السابقة ليستخلص منها الدروس، لتكوين رؤى تُمكن من وضع خطط واستراتيجيات لتحقيق الغايات المنشودة المتمثلة في التنمية المستدامة، والتجارب كثيرة ومتنوعة، ولا تقتصر على أمة دون أخرى ولا شعب دون آخر، فهي تجارب إنسانية جديرة بالدراسة ونماذج يُحتذى بها من اليابان وسنغافورة وجنوب أفريقيا إلى رواندا وغيرها. من هذا المنطلق فإن الزيارات الدبلوماسية التي يقوم بها حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى تأتي في سياق الاستفادة من التجارب الناجحة المتنوعة، فليس معنى أن قطر دولة استطاعت تطبيق نظام مفاهيم جعلت منها دولة غنية تسير بخطى متسارعة في التنمية المستدامة أن تكتفي بما وصلت إليه من إنجازات أو تتوقف عن تعزيز منظومة المفاهيم، فالمحافظة على النجاح واستمراريته أكثر أهمية من النجاح نفسه؛ لأن الثبات على القمة هو الأصعب وعدم القدرة على استمرار العمل على تهذيب وتحسين منظومة المفاهيم يؤدي إلى التراجع في التنمية، والسر في ذلك هو تطوير منظومة المفاهيم التي ينبغي أن يتحلى بها المجتمع، وهذه المفاهيم من وجهة نظري هي سيادة القانون، والعدالة، والتسامح، والشفافية، والانفتاح على الأفكار وعلى الآخر، والالتزام بحقوق الإنسان، والمبادرة، والإبداع، والتطوير، والتحديث، والشراكة الاجتماعية، وخلق بيئة آمنة، ومحاربة الفساد، وكلها مفاهيم وقيم تؤدي إلى اطمئنان المجتمع وهي سبب مباشر للقضاء على الخوف المُعطل لمسارات التنمية بسبب عدم وضوح الرؤية. إن زيارة سمو أمير البلاد المفدى إلى رواندا تمكن قطر من الاطلاع على تجربة رواندا الناجحة والنموذج الرواندي، والاستفادة من الممارسات التي تدعم التنمية، فغِنى التجربة الانسانية رافد مهم لتطلعات قطر المستقبلية، فعلى الرغم من أن رواندا بلد حبيس تحده تنزانيا شرقا أوغندا شمالاً الكونغو الديمقراطية غربًا بوروندي جنوبًا، كما أن الدولة عانت من حرب أهلية مثلت فاجعة إنسانية راح ضحيتها نحو مليون إنسان، إلا أنها الآن بعد المصالحة المجتمعية تغلبت فيها على العنصرية والعرقية واختلاف العادات والتقاليد، وكسرت حاجز الخوف وسارت خطوات واسعة نحو التنمية المستدامة حتى اعتبرت رواندا الآن نموذجا للبلدان النامية، حيث حققت الاستقرار والنمو الاقتصادي فمتوسط الدخل قد تضاعف ثلاث مرات في السنوات العشر الأخيرة، وتوصف الحكومة الرواندية على نطاق واسع كواحدة من أكثر الحكومات كفاءة ونزاهة في أفريقيا، أما العاصمة كيجالي فهي أول مدينة في أفريقيا تتشرف بأن يمنح لها جائزة زخرفة المساكن مع جائزة شرف لاهتمامها بالنظافة والأمن والمحافظة على نظام المدينة النموذجية. لقد حقق الاقتصاد الرواندي طفرة هائلة وصفت بـ «المعجزة» حيث حقق خلال الفترة بين عامي 2000 و2015، نموًا في ناتجه المحلي بمعدل 9% سنويًا، فيما تراجع معدل الفقر من 60% إلى 39%، ونسبة الأمية من 50% إلى 25%، وارتفع متوسط حياة الفرد من 48 عامًا إلى 64 عامًا. ونجحت رواندا في تشجيع الاستثمارات الخارجية، باتباعها نظام «النافذة الواحدة» الذي يمكِّن المستثمر من إنهاء جميع الإجراءات في مكان واحد وخلال بضع ساعات، وتعد العاصمة كيجالي مركز استثمار عالمي، بعد إلغاء التأشيرة لجميع الأجانب، مما جعلها أكثر العواصم الإفريقية استقبالاً للمستثمرين... والسؤال كيف استطاعت رواندا أن تحقق كل ذلك والإجابة ببساطة أنها كسرت حاجز الخوف وقضت على أسبابه المتمثلة في إطفاء نيران الحرب الأهلية، ثم إرساء مبدأ الشفافية وسيادة القانون لتحقيق العدالة الانتقالية، وبعدها إرساء قواعد التسامح بين المجتمع وتوجيه طاقاته للعمل والإنتاج بدلا من التناحر والخلاف، وتلك منظومة مفاهيم داعمة للتنمية المستدامة، بدل الانتقام والتحريض والعداوة والفرقة. إن هذا الكلام لا نقوله استنباطا، فقد حُكي لي أن الشعب الرواندي كان يملك إرادة للمصالحة وإطفاء الحرب، والمسامحة في الثأر القبلي، فمليون قتيل بالطبع تركوا جرحا غائرا في المجتمع وعداوات عميقة وثأر لا يمكن أن ينتهي في جيل أو جيلين أو حتى ثلاثة أجيال، فإغلاق الصفحة الدموية كان أمرا في غاية الصعوبة ولكنه كان الأساس الذي بنوا عليه نموذجهم في التنمية... ولكن ما وجه الشبه بين التجربة الرواندية والقطرية؟ صحيح أن الله عصمنا من صفحة دموية وغزو عسكري كانت تخطط له دول الحصار، لكن قطر سارت في مشكلتها مع دول الحصار مطبقة مبدأين الأول سيادة القانون، والثاني التسامح، فأما سيادة القانون فإن قطر لم تتنازل عن حقوقها فأقامت بها دعاوى قضائية لدى المؤسسات الدولية وأخذت أحكاما لصالحها مثل منظمة الإيكاو ومحكمة العدل الدولية، كما أنها احترمت عقودها مع كل دول العالم بما فيها نظم الحصار، وهذا التزام بسيادة القانون، كما أنها كانت متسامحة مع مواطني دول الحصار فلم تجعلهم طرفا في المشكلة، بل استوعبتهم في داخلها، وتركت لهم حرية العيش والعمل ومنحتهم حق التعليم والصحة وغيرها من حقوق الإنسان. في المقابل نجد نظم الحصار تعيش في لباس الجوع والخوف، فلا مبادرة لديها ولا إبداع عندها، رغم أنها تملك من الموارد الطبيعية والبشرية ما يفوق كثيرا من الدول المتقدمة، لكن هذه الدول تحتاج إلى إرساء مفاهيم العدالة وسيادة القانون والتسامح كقيم أساسية للخروج من أزمتها وتحقيق تنمية مستدامة، وهذه القيم تحتاج إلى حديث طويل نفصله في اللقاءات القادمة إن شاء الله. [email protected]