03 نوفمبر 2025

تسجيل

تركيا و"تصفير" الفكر السياسي

28 أبريل 2012

باتت سياسة "تصفير المشكلات" موضع تهكم لدى معظم الكتّاب الأتراك ولاسيَّما المختصين بالسياسة الخارجية. ولا يتعلق الأمر بكتّاب مبتدئين أو غير مختصين بل بنخبة من أهم المعلقين والخبراء في السياسة الخارجية يضاف إليهم الأكاديميون وتقارير مراكز الدراسات. ويزداد التهكم كلما تناول وزير الخارجية التركي تحديدا أحمد داود أوغلو هذه السياسة بإصراره على أنها عمود السياسة الخارجية التركية. وإذا كان الوضع فعلا لا يزال كما كان قبل سنة أو سنتين أو ثلاث فإن ذلك يدعو إلى إعلان حالة طوارئ في كواليس الدبلوماسية التركية والتحقيق فعلا بمدى السلامة العقلية لمنتجي هذه السياسة. لم يقدر سامي كوهين أحد أهم المعلقين الأتراك في السياسة الخارجية من أن ينهي مقالته حول العلاقة التركية المتوترة مع العراق إلا بتذكير المسؤولين الأتراك حول مآل سياسة تصفير المشكلات. وقال إنه مهما تكن الأسباب فإن سياسة تصفير المشكلات بين تركيا وجيرانها المباشرين تحولت إلى سياسة صدام وتنازع معهم. أثناء زيارة رئيس الحكومة التركي رجب طيب أردوغان إلى قطر انفجر من جديد النزاع بين تركيا والعراق. وشن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي هجوما لاذعا على تركيا واصفا سياساتها تجاه العراق بالعدائية. وما أن وطأت أقدام أردوغان مطار اسطنبول عائدا حتى كان يذكّر المالكي بأن تركيا لا تتدخل في الشؤون العراقية بل إن تركيا وقعت 48 اتفاقا مع العراق حين لم يكن أحد يجرؤ على ذلك. لكن في المحصلة فإنه بعد سنتين من توقيع الاتفاقيات انقلبت العلاقات رأسا على عقب. ما يلفت اليوم ليس فقط انهيار سياسة تصفير المشكلات مع سوريا التي تحولت العلاقات التركية معها إلى حالة تكاد تكون معلنة من الحرب على مختلف المستويات، ولا مع إيران التي باتت العلاقات معها رهينة حرب باردة مرئية أمام الجميع رغم بعض التعاون في بعض الملفات، ولا مع إسرائيل التي تكاد تكون مجمدة، رغم أننا نرحب بأي تجميد بل قطع بل توتير للعلاقات مع إسرائيل العدو الأزلي لكل شعوب المنطقة من العرب إلى إيران وتركيا. ما يلفت أن تحالفات تركيا باتت لا تليق بدولة إقليمية كبيرة لها تأثيرها وحضورها ودورها الذي بات يتراجع ويضمر في كل الملفات. لقد تحدّت تركيا الغرب وأمريكا وأقامت علاقات إستراتيجية مع سوريا والعراق وإيران ومع روسيا. وأقامت علاقات جيدة مع جيرانها الأبعد مثل دول مجلس التعاون الخليجية. ولكن النظرة إلى المشهد الحالي وبالتحديد إلى الجيران المباشرين لتركيا نقف عند لوحة غير مألوفة، ليس فقط لا تليق كما ذكرنا، بدولة كبيرة مثل تركيا، بل لا يمكن أن تخدم أيا من المصالح المرسومة من قبل القادة الأتراك. خسائر تركيا في كل مكان ومن ثم يصر وزير الخارجية داود أوغلو على أن ما هو قائم حاليا هو سياسة تصفير المشكلات مفترضا أنه لا أحد يرى ويتابع سواء من الكتّاب والباحثين الأتراك أو الأجانب ما هو أسوأ من خسارة "حلفاء استراتيجيين " أن تستبدل هؤلاء الحلفاء، الذين صاروا"سابقين"، بحلفاء لا يمكن أن يشكلوا لتركيا أي فائدة إستراتيجية في لعبتها الإقليمية. نقصد هنا حكومة إقليم كردستان العراق التي زار رئيسها القوي أنقرة والتقى بكل المسؤولين الأتراك. تحوّل البرزاني الذي ترفع له القبعة لأنه نجح بدهائه وإخلاصه لقومه الأكراد أن يتقدم خطوات على طريق تحقيق شخصيتهم القومية والاعتراف بهويتهم وصولا إلى إعلان الاستقلال في يوم من الأيام قد لا يطول. إقليم كردستان العراق الذي كان مجرد جغرافيا يحكمها "زعيم عشيرة" كما كانت تصف أنقرة البرزاني وجلال الطالباني تحوّل كما يقول المعلق التركي قدري غورسيل في صحيفة ميللييت إلى "الشريك الوحيد" لتركيا في المنطقة. وهذا يعني أن الدولة المتطلعة لتكون مؤسسة لنظام إقليمي جديد ولاعبا عالميا في المدى المقبل، هي التي تحولت إلى دولة لا يحسدها أحد على ما انتهت إليها سياستها الخارجية الخاطئة ولاسيَّما أن المشروع الكردي يغطي المنطقة كلها ومن ضمنه تركيا. نكرر الدعوة ليكون للأكراد حقوقهم الكاملة في كل الدول التي يتواجدون فيها شأنهم شأن كل الأقليات الكبيرة والصغيرة في كل العالم العربي والإسلامي، لكن أن تتحول منطقة لا تزال تابعة لسيادة دولة العراق إلى الحليف الوحيد، المفترض رغم كل ذلك، لتركيا فهذا يوجب أن يدقّ ناقوس الخطر إلى ما آل إليه الفكر السياسي لدى النخبة الحاكمة في أنقرة.