17 سبتمبر 2025
تسجيلبعد صيف مشمس مفعم بالحيوية .. يطرق الشتاء بابها ليعلمها بقدومه .. فيدخل بغتة ثم يتسلل إلى جسدها النحيل رويدا رويدا .. ترتجف أطرافها الصغيرة .. تحاول تدفئة نفسها بحك باطن يداها ببعضها البعض لكن الأمر لا يجدي نفعا .. يتطاير شعرها وتعصف الريح بأذنيها وتسارع لتغطيتها بيديها إلا أن البرد كان أقوى منها .. هبت الصغيرة مسرعة لإغلاق النافذة المحطمة وتذكرت أنه يجب عليها إغلاقها ببطء حتى تحافظ على مابقي من حطامها .. تراجعت للخلف قليلاً لترى أخاها الأصغر خلفها يحدق بها وكأن نظراته الشاردة تصف ما يحكيه واقعه من شتات .. . " هل يوجد لدينا طعام .. أشعر بالجوع " قالها الأخ الأصغر بنبرة حزينة وبصوت أشحب .. لم يكن يوجد ما يمكن تناوله في منزلهم المتواضع وبحركة تثير الاستغراب أخذت نور قطعة من القماش كانت تتدلى من الطاولة التي أمامها وفتحتها ونادت أخاها عمار إلى جانبها ليصبحها متلاصقين وكأنهما يستمدان الدفء من بعضهما ثم لفت جسديهما بقطعة القماش المهترئة التي بالكاد تغطي أكتافهم .. ، " حسناً سأروي لك قصة جميلة ستكون أنت بطلها " ! هكذا قالت نور لأخيها الأصغر بابتسامة صفراء مصطنعة في محاولة منها لإلهائه عن أمر الطعام .. " كان هناك فتىً صغير يدعى عمار يعيش مع أسرته في سعادة وهناء يستيقظ كل يوم ليخرج إلى مزرعتهم الخضراء ويلعب مع الأرانب ويلاحق الدجاج ثم يقوم بإطعامها ... انقطع صوت نور بعد أن رأت أن أخاها قد خلد إلى النوم ولم تكن تقوى على رفع يداها من شدة الجوع فقررت النوم بجانبه .. وضمته بشده وكأنها تستمد الدفء منه .. وكأنها تخشى فقدانه .. وكأنها لن تراه مرة أخرى ..! قبل حلول الفجر .. استيقظ الصغيران على أصوات مرعبة تبدو مألوفة بالنسبة لهم إلا أن هذه الأصوات هي أكثر ما يرعبهم ..وما أن زادت الأصوات حتى صرخ الصغيران بصوت عالٍ وتذكرت نور بأنها الأخت الكبرى ويجب أن تكون قوية إلا أن عمار أصيب بالذعر الشديد حتى تبلد ولم يعد يستطيع الصراخ غير أن يداه هي التي تعطي ردة الفعل بسرعة رجفانها .. وفجأة يصرخ أحد من الخارج " اطلعوا من بيوتكن القصف شديد " .. وبقوة شديدة تهتز نوافذ المنزل ويتساقط حطامها بالقرب منهم حينها أدرك الصغيران أنه يجب عليهم الهروب بسرعة إلا أن الخارج لم يكن أفضل حالاً .. المنظر في الخارج مخيف جدا تتصاعد ألسن النيران من خلفهم ويخيل إلى من يرى ذلك بأنه وقت الظهيرة من شدة هبوط الصواريخ المضيئة والنيران المشتعلة .. يا للهول كيف لقلب بحجم اليد الصغيرة أن يتحمل ذلك .. وكأنه يوم الحشر الجميع يصرخ ويركض الأم هنا تبحث عن أطفالها .. وذاك الأب يبكي وهو يرى حطام منزله ويحاول انتشال جثة امرأته وطفله ذو الثمانية أشهر .. وفجأة يهوي صاروخ قوي ليحطم سلسلة المباني المتلاصقة فتهوي بسرعة على الأرض تاركة الحطام والأرواح التي تحتها تأن من الوجع حتى تفقد الحياة .. رحلت نور وعمار بعد أن فارقا الحياة متمسكين ببعضهما تاركين خلفهما حياتهما وآمالهما ليلحقا بوالديهما اللذين سبقاهما إلى الجنان .. صباح يصبح كل صباح في الغوطة.