12 سبتمبر 2025

تسجيل

البوطي .. هل ندعو له بالرحمة؟

28 مارس 2013

مساء الخميس الماضي 21 / 3 / 2013 نقلت وسائل الإعلام أخباراً وصُوَراً عن مقتل الشيخ "محمد سعيد رمضان البوطي" وآخرين في تفجير استهدف مسجد الإيمان بدمشق؛ وللتنويه فالشيخ البوطي كان من أكبر علماء الشام الأحياء، أما موقفه من النظام السوري والثورة الحالية فقد كان هو والمفتي أحمد بدر الدين حسّون من أكثر مشايخ سوريا حماسة لبشار الأسد ونظامه وإدانة للثورة حتى إنه قال قبل أسابيع من مقتله - " إنّ الأسد وجنوده وضباطه في جهادهم ضد الإرهاب والتآمر لا يقلُّون منزلةً وأجراً عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تصدَّوا للردة! " .. بعد مقتل الشيخ تكلم أناس من النخبة والكُتاب فضلا عن دهماء الناس وعامتهم في ذلك وخاضوا واختلفوا في قتله بين مجيز قتله بحد الحرابة باعتباره يؤيد قتلة شعبه ويخرب بفتاواه الإصلاح الثوري، أو مجيز قتله باعتبار الخلاف معه عقديا ودينيا وفقهيا كونه يؤيد نظاما طائفيا نصيريا محكوما عليه لدى جمهرة علماء الإسلام بالكفر والردة، ومنهم من لم يجز قتله معتبرا فتاواه اجتهادا من مؤهل إن أصاب وإن أخطأ .. الناس اختلفوا أيضا في نسبة المسؤولية عن القتل ؛ فمنهم من نسبها للثورة تماشيا مع دعوى النظام ومؤيديه، ومنهم من نسبها للنظام .. حتى اشتبك حق قليل بباطل كثير .. ما يقتضي وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة التي قد تتجاوز ذات يوم الشيخ البوطي والثورة السورية بل وكل سوريا، وقد تشوه المفاهيم التي لا يجوز أن تختلط أو أن يُشتط في تأويلها ..  وقد رأيت أن أوضح جملة من الملاحظات هي في نظري حقائق ومحددات تصلح معيارا في هذه القضية وفي سواها مما قد يخبئه القدر .. وأقول:  ثمة حقيقة لا بد من توضيحها وتأكيدها تحوطا منذ البداية ؛ وهي أن هذه القضية التي نتناولها لها شق علمي دقيق مبني على فهم أصول الفقه وليست قضية انطباعية أو مجرد ثقافية، ثم إنها تتعلق بعالم من علماء الإسلام المعاصرين وأهل الرأي فيهم ما يعني أن الحكم عليه قد ينساب على غيره من علماء يحكمون في الخلافات ويقودون الرأي العام، وتتعلق بدم فالكلام فيه على غاية من الخطر والمسؤولية، ثم إن القضية في بعض أطرافها مختلطة وما يعلمه أحد ليس بالضرورة يعلمه كل أحد .. وعليه فلا بد من الموضوعية ومن البعد التخصصي في التناول ؛ كما لا بد من فرز الشبهات على الحقائق، وتشخيص الحالة والتوصيف لإنزال الأحكام منازلها ..  وأقول: إن الخلاف بين البوطي والثورة السورية خلاف على تقدير الموقف ثم جر وراءه خلافا حول الموقف ذاته.. بمعنى أن البوطي نظر للثورة وتقدير المصلحة من زاوية غير الزاوية التي ينظر منها العلماء الذين كان يختلف معهم "حولها .. وما سمعناه منه من موقف ومن تبريرات في تأييد النظام إنما كان يدور في محيط المصالح والمفاسد وليس حول حقائق العقيدة وأصول الأحكام .. أما الثورة فقد كانت في نظره عملا مدسسا بالخيانة واللاوطنية .. وبصرف النظر عن هذا التقدير – والله حسيبه – وبصرف النظر عن كونه مجرد استجابة لدعايات النظام في حربه على الثورة .. فإن الخلاف الذي بنى عليه موقفه السياسي هو خلاف في توصيف الحالة وفي تحقيق المناط - كما يقول الأصوليون – وخلاف في تنزيل النصوص على الوقائع وبالتالي فهو خلاف سياسي وليس مخالفة في أصل عقائدي أو فقهي..  جدير التنويه إلى أن البوطي في فهم السياسة ليس بالضرورة هو ذات البوطي الذي ألّف كتاب " ضوابط المصلحة في الفقه الإسلامي " وألف كتاب " المرأة بين طغيان النظام الغربيّ ولطائف التشريع الربانيّ " ولا هو البوطي الذي كتب في السيرة وفي الحضارة وفي الفكر.. ولكنه البوطي الذي رأى نظاما داعما للمقاومة ومعاندا للمشروع الصهيوني والأمريكي في المنطقة ورأى في مقابل ذلك ثورة تقاتله وتريد إسقاطه ودولا وأحزابا تدعمها كان بعضها إلى وقت قريب في المربع الصهيوني.. فانطلت عليه الحيلة وصدق أبواق النظام ولم ير المشهد العام بفروقه وتفاصيله ..  مشكلة البوطي وبوطينيين غيره أنهم لا يحدّثون معلوماتهم ولا يراجعون قناعاتهم، وأنهم يأخذون من رصيد النظام الفاجر في ملف المقاومة إلى ملف الاستبداد فيغسلون الثاني بالأول .. مشكلته أن قناعاته ظلت واقفة عند مشهد تحالفه مع مصر في 1973، ومشهد دعمه لحماس وحزب الله بالأخص في حربي 2006، 2008 ولم يتنبه إلى أن من الدول التي كانت تدعمه وكانت وإياه في خندق المقاومة انصرفت عنه بعد أن صار يقتل شعبه ويهلك الحرث والنسل، ولم يلحظ ابتعاد حماس عنه، كما لم يتنبه إلى أنه استعاض عن كل هؤلاء بالنظام الطائفي البغيض المركب أمريكيا في العراق، السؤال: هل البوطي وحده من وقع في هذا المستنقع؛ أم أن قيادات فكرية ومقاومية ومتخصصة لا يشك في إخلاصها وقعت مثله أو ترى ضرورة الصبر عليه كما الصبر على نظم أخرى قد تكون أكثر استبدادية فوق أنها متهرئة وطنيا وقيميا وأخلاقيا ودينيا.. وإذن فالبوطي عالم متأول والخلاف معه فقط في زاوية النظر .  ذلك يعني ألا نسمح بأن يُنصِّب عامي من الناس وممن لا يحسنون النظر الشرعي مهما كانت ثقافاتهم الأخرى – أنفسهم قضاة بين العلماء يحكمون على آرائهم واجتهاداتهم ويفرحون بمقتلهم .. فمن يتكلم اليوم في البوطي لا يبعد أن يتكلم غدا فيمن هم أطهر وأشرف وأحسن منه وعندها لن يستطيع أحد تعليمهم أو الاعتراض عليهم أو ردهم.. فالعامة لا يجوز أن يصلوا حدود الحلال والحرام ومواطن المشتبهات (وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) ...  أما عن المسؤولية عن قتله ومن تنسب له هذه الجريمة فالله تعالى وحده يعلم من الذي سيتحمل دمه وخصومته يوم القيامة ؛ ولكن الخبراء في هذا المجال عادة ما يطرحون أسئلة تقرب الاشتباه والاتهام ؛ فيسألون عن المستفيد من الجريمة؟ ويسألون عن دلالات التوقيت والمكان والطريقة، وإن كانت الجريمة لها علاقة بالرأي العام فيسألون عن أثرها على هذا الرأي العام حسب تصور الجاني..  وبنظر ذلك يمكن القطع الثورة السورية ليست المستفيد من قتله بقدر ما إنها لم تكن متضررة من حياته.. فالرجل لم يتسبب في انهيارات فكرية وثقافية في صف الثورة لتقرر قتله درءا للفتنة ولم يقدم غراما واحدا من الشرعية للنظام؛ ليس منذ الثورة الحالية بل قبل ذلك منذ مجزرة الإخوان على يد الهالك حافظ وأخيه رفعت أسد مطالع ثمانينيات القرن الماضي.. البوطي أيد الهالك إذ ذاك ومن يومها لم يعد له تأثير إلا على شريحة الكسالى والمترخصين والمغفلين من الناس الذين يبحثون عن الذرائع للتخلف والمبررات للركون إلى الخوف.. وعليه فلا يتوفر لدى الثورة السورية الداعي لقتله!! حتى القاعدة ومع بسر فهمها وعسر منطقها فهي لم تعلن مسؤوليتها عن قتله وقد اعتادت أن تفاخر بعملياتها لا أن تنكرها!!  في المقابل فإن نظام بشار أسد هو المستفيد من هذه الجريمة بل هو المستفيد الوحيد .. إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنه بات يلعب بآخر أوراقه (الكيماوي والإرهاب والأكراد..) قتل البوطي يأتي في سياق اتهام الثورة بالتطرف والإرهاب وأنها لا منطق ثقافيا لديها؛ ذلك في نظر النظام ومن يسمعون خطابه يشوه صورتها ويخيف الناس مما ستأتي به من ثارات ودماء وأنها لا ترعى مسجدا ولا عِلما ولا عالما ولا حرية رأي ولا اجتهادا ممكنا.. ثم إن الشيخ البوطي " كردي العرق " ولبعض الأكراد اعتراض بل اشتباك مع الثورة ومصلحة النظام في إثارتهم وتمكينهم من حجة لدى بني جلدتهم بادية جوهرية ..