14 سبتمبر 2025

تسجيل

في "انحطاط" السياسة العالمية والرد عليها

28 فبراير 2016

على المدى الاستراتيجي، تبدو العبارة السابقة من تاريخنا، الردﱠ الأمثل على درجة الابتذال والقذارة التي تميز السياسة الدولية اليوم تجاه المنطقة العربية عموماً، وفيما يتعلق بالقضية السورية تحديداً.لا مفرﱠ، فيما يبدو، من إعادة التذكير في هذه الصفحة بالجملة التي لخَّص الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان رأيه في السياسة من خلالها قائلاً: "من المفترض في السياسة أن تكون ثاني أقدم مهنة في العالم، لكنني أدركت مع الوقت أن هناك شبهاً كبيراً بينها وبين أقدم مهنة"!لكن تصريح ريغان بـ"اكتشافه" منذ ثلاثة عقود ونيف يدفعنا للتساؤل عما كان له أن يقوله في معرض وصف المشهد السياسي العالمي، والأمريكي تحديداً، في هذه المرحلة.حصل هذا أبكرَ بكثير من زمن وجود النصرة وداعش، وفي غياب الفصائل الإسلامية قاطبةً، وقبل خطوط أوباما الحمراء عن الكيماوي، وقبل الاتفاق الأمريكي/ الدولي مع إيران والسماح لميليشياتها الإرهابية باستباحة سوريا، وقبل التفرج على روسيا تحتل أرضها وسماءها.ما يجري، تلخيصاً، هو التعبير عن وصول النظام الدولي، أخيراً، إلى التماهي الكامل مع أقدم مهنةٍ في العالم دونما الشعور بحاجةٍ للمناورة أو التمويه. وبمعزلٍ، حتى، عما قد يكون لدى أهل تلك المهنة أحياناً من أعذار. وفي مقابل تلك الممارسات ومعانيها، لا غريب أن يُوصف العاملون في تلك المهنة بأنهم شرفاء.نُعتت ممارسات أمريكا، ومعها النظام الدولي بصفات كثيرة، وقوبلت تلك الممارسات بالهجاء والنقد والشتيمة أحياناً. لكن ما يجري يتجاوز التفكير بالموضوع والتعامل معه بتلك المداخل. ببساطة، لأن الممارسات، تلك، تتجاوز النفاق، وازدواجية المقاييس، واستغباء السوريين والعرب، وممارسة التذاكي عليهم وعلى والعالم، وتجاهل شعارات حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. بل تتجاوز أسوأ عمليات خلط الهزل بالجد، والتي كثيراً ما تتلبس السياسة الدولية.من هنا، فالتعامل مع هذا الواقع القبيح والمعقد يتطلب مقاربةً أخرى مختلفةً عن كل مقتضيات الفكر السياسي السائد تاريخياً وحتى الآن، لأنه بدوره واقعٌ مختلفٌ كلياً عن كل ما سبق أن رآه تاريخ العلاقات الدولية.ثمة حقائق في هذا الإطار يجب الحديث فيها بوضوح وشفافية. إذ تبدو الثقافة السياسية السائدة لدى كثير من الشعوب العربية غير قادرة على التصديق بأن العرب يمكن لهم يوماً أن يدفعوا بجديةٍ لتحقيق مصالحهم، ولو تناقضت في جوانب معينة مع إرادات الدول الغربية، وأمريكا تحديداً. لا يقبل العقل العربي بغير منطق الثنائيات الحادة والمتقابلة بشكلٍ ضدي. فإما أن تكون السياسة تبعيةً كاملةً لأمريكا، أو تصبح مواجهةً غوغائية ومباشرةً و(عنيفةً) معها. لا فُسحة لدى هذا العقل خارج هذين الخيارين. فعلى هذه القاعدة، فقط، يجري تفسير الأحداث السابقة والراهنة، ووفق مقتضياتها يجب أن تكون السياسات المستقبلية."الإرادة الدولية" أشبه بحتميةٍ قَدَريةٍ في الأرض، لا مردﱠ لها، وفق تلك الرؤية. وإذا شوهدت ممارسةٌ تلوح فيها شبهة (مدافعة) تلك (الحتمية) ورفضُ مقتضياتها، فالأمر ليس كما يبدو عليه إطلاقاً، ولابد أن ثمة أمراً خفياً يجعل عملية المدافعة نفسها جزءاً من (الخطة) التي رسمتها تلك الإرادة الدولية. هكذا، تتجلى الثقافة السياسية المذكورة في عبارات شعبية مألوفة:"مستحيل أن تفعل الدولة الفلانية كذا لو لم تكن أمريكا موافقة"، "أصلاً الدولة الفلانية تفعل ذلك لأن أمريكا تريده جزءاً من الخطة على المستوى البعيد ولو لاحَ أنه ضدها"، إلى مثلها من الأقوال التي كثيراً ما تتردد، وتُعبر عن درجةٍ خطيرةٍ من فقدان الثقة بالنفس أو بمن يحاول فعل شيء جدي عربياً، بل تعبر عن هزيمةٍ داخليةٍ كُبرى. أما الخيار الآخر لدى هذا العقل في حال سألتَهُ عن أسلوب المواجهة والمدافعة فينحصر تحديداً في المجابهة المباشرة الحماسية الاندفاعية بتجليها العسكري تحديداً، وبغض النظر عن كل الحسابات والنتائج الممكنة.لا حلﱠ لدى أصحاب هذه الطريقة في التفكير سوى في تصرفاتٍ هي في نهاية المطاف، للمفارقة، أشبه بالعمليات الانتحارية التي تُلغي النفس و(الآخر/ العدو) من هذا الوجود، على أملٍ يُعزي النفس بأن مثوا(نا) بعد ذلك هو النعيم، ومثوا(هُم) هو الخسران.ثمة معنى خطير في نمط التفكير هذا، وهو سائدٌ بشكلٍ واسع، من مدخلين. فهو يُحيل، من ناحية، إلى منهج حركات الغلو والتطرف ويتطابق معها. فضلاً عن أنه يفرض هذا المعنى السطحي للـ(الخلاص) الموهوم على المستوى الفردي قاعدةً للتفكير والعمل، ويريد تعميمه على الدول والمجتمعات.بهذا الاختزال والتسطيح، يغدو طبيعياً ألا يشيع التفهم السياسي لمواقف تركيا والسعودية، مثلاً، من التدخل البري في سوريا بشكلٍ فردي أو ثنائي. وتُسمع مقولات خيبة الأمل وحتى التندر على الموضوع بين شرائح متحرقة، بشكلٍ محق، على مآسي الشعب السوري، لكنها تغفل عن طبيعة السياسة الدولية بالمعنى (الريغاني) الذي تحدثنا عنه، وعن مقتضيات التعامل معه بحكمةٍ وتدرج ومرحلية. ورغم الاتفاق الكامل على حجم المأساة التي يعاني منها الشعب السوري، لكن الطبيعة القذرة للسياسة الدولية تفرض درجةً عالية من الحسابات، بحيث لا تضحى القرارات والممارسات السياسية سبباً لانتحارٍ ذاتي للجميع، لا يتحقق معه أصلاً هدف إنقاذ الشعب السوري من مأساته، فضلاً عن مساعدته على تحقيق طموحاته.ثمة عملٌ سياسي وعسكري وإعلامي ودبلوماسي حقيقي ومحترف تقوده السعودية في المنطقة، بغض النظر عن كل الأحكام السطحية. فهي، ومَن معها، تُدرك طبيعة التهديد الوجودي الذي يواجهها جميعاً. ورغم إلحاح العمل في مرحلةٍ معينة وفق القواعد السائدة في العلاقات الدولية، ورغم أنها تُحاول جاهدةً أن (يسمع) الآخرون ويفهموا.. إلا أنها تتحضر لما قد يكون أسوأ، ولسان حالها يقول: "الجواب ما سترونه، وقتها، لا ما ستسمعونه".