14 سبتمبر 2025

تسجيل

الوضع العربي الراهن يستدعي إعادة بناء الدولة الوطنية

28 فبراير 2015

التحاليل التي تحدثت وشخصت الواقع المرضي الذي يعيشه العالم العربي، من تفشي الفقر المدقع، والاستبداد، والإرهاب، لا تحصى ولا تعد، ولا نضيف شيئاً جديداً في هذا المجال، لكن ما لم يتم التطرق إليه، هو كيفية معالجة الآفات التي تنهك هذا الجسم العربي المريض، ولعل أهم هذه المهمات، هي إعادة بناء الدولة الوطنية في بلدان العالم العربي. وإذا كان من الضروري إيضاح الخطوط الرئيسية لاستعادة بناء الدولة الوطنية، فإن هذه الخطوط هي: أولاً: المقدمة الأولى للدولة الوطنية وضمانة تحولها إلى دولة ديمقراطية، تكمن في تحقيق الاندماج القومي في كل بلد عربي على حدة، في العالم العربي بوجه عام، ونقصد بالاندماج القومي تصفية البنى والعلاقات ما قبل القومية، والانتقال من مفهوم الجماعة إلى مفهوم المجتمع المدني، ومن مفهوم الملّة الديني إلى مفهوم الأمة العلماني والديمقراطي، ومن وضعية التكسر المجتمعي وتحاجز فئات المجتمع إلى الوحدة المجتمعية السياسية - وسيرورة الاندماج القومي هذه هي ذاتها سيرورة نمو المجتمع المدني العلماني، وسيرورة بناء الدولة الوطنية وفق مقتضيات العقل ومطلب الحرّية. والاندماج القومي المجتمعي خطوة ضرورية منطقياً وتاريخياً للوحدة القومية، التي قد يفرض التطور الموضوعي أن يكون الوصول إليها عبر أشكال وسيطة مختلفة منها مثلاً صيغة السوق المشتركة، أو التعاون والتنسيق بين دولتين أو أكثر، أو قيام تجمعات إقليمية وجهوية التي يتحدد طابعها القومي الوحدوي بمدى وطنية الدولة في كل بلد عربي بالمعنى الذي أشرنا إليه. ثانياً: الدولة الوطنية هي التي ترتبط بتحرير عملية الإنتاج الاجتماعي وتحديثها، وبتنمية الموارد البشرية والمادية بصورة أساسية. فعمليات الإنتاج الاجتماعي المنفتحة على معطيات العصر الحديث وقيمه ومناهجه وكشوفه العلمية والتكنولوجية.. هي ذاتها عمليات بناء الوطنية وبناء الدولة الوطنية.ثالثا: الدولة الوطنية هي التي تتبنى الإنسانية، أي الاعتراف المبدئي والنهائي بالكرامة الإنسانية، وبأن الإنسان هو معيار جميع القيم ومنتجها، وبأن الماهية الإنسانية تتجلى في الفرد الذي يستمد قيمته منها، لا من أصله وفصله ونسبه وحسبه، ولا من ثروته أو تراثهن ولا من عقيدة دينية أو دنيوية، وأن الفرد، ذكر أو أنثى، ذات حرّة ومستقلة ومسؤولة... الإنسان غاية في ذاته ولذاته،لا يجوز أن يكون وسيلة لأية غاية مهما سمت، وحريته وحقوقه الطبيعية والمدنية والسياسية مقدمة على كل ما عداها. في ضوء ذلك، تبدو قضية حقوق الإنسان قضية مركزية في نسق الحداثة وفي منظومتها القيمية، وفي الثقافة الديمقراطية سواء بسواء. ولا يمكن فصل مقولة الحرية أو مشكلة الحرية، بتعبير الفلاسفة، عن قضية حقوق الإنسان وكرامته.. ومن المهم أن نلاحظ أن هذه القضية كانت غائبة عن الثقافة العربية، وعن الفكر السياسي خاصة، ولا تزال غائبة، ولذلك كان من السهل تذويب الفرد في العشيرة والطائفة والجماعة الإثنية، وفي الحزب السياسي «الحديث». فحقوق الإنسان مبدأ عام، يتعين واقعياً في حقوق الطفل، وحقوق المرأة، وحقوق الجماعات القومية والدينية والمذهبية وغيرها. ومن ثم فإن أي انتقاص من حقوق هذه الجماعات أو من حقوق إحداها هو انتقاص من حقوق الإنسان بوجه عام، ونقص في مبدأ الدولة الوطنية بوجه خاص، ونقص في الوطنية الذي ليس له من تحديد موضوعي سوى عضوية المواطنين المتساوية في الدولة الوطنية.. الوطنية هي صفة الدولة بامتياز، والدولة الوطنية هي التي تمنح الأفراد هوياتهم الوطنية وتمنح الجماعات والفئات الاجتماعية والأحزاب والتيارات الفكرية المختلفة هويتها الوطنية.. الوطنية صفة للدولة وتحديد ذاتي لجميع مواطنيها، وهي كالإنسانية صفة غير قابلة للتفاوت والتفاضل. رابعاً: الدولة الوطنية هي التي تتبنى العمومية، فتكون الدولة بهذا التعريف، دولة جميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز،لا دولة طبقة رأسمالية أو بروليتارية ولا دولة جماعة إثنية أو عشيرة أو جماعة إسلامية، ولا دولة حزب ولا دولة طغمة تحتكر السلطة والثروة والقوة. المجتمع المدني هو الذي ينتج الدولة السياسية أي الدولة الوطنية، تعبيراً عن كليته ووحدته التناقضية، بما هو مجتمع الأفراد المختلفين والجماعات المختلفة والطبقات أو الفئات الاجتماعية المختلفة ذات المصالح المتعارضة.الدولة باعتبارها تجريداً للعمومية، تنظر إلى مواطنيها على أساس المساواة، فلا تنحاز إلى الراشدين ضد الأطفال، مثلاً، أو على الرجال ضد النساء، أو على المسلمين ضد المسيحيين، أو إلى الأغنياء ضد الفقراء، أو إلى «التقدميين» ضد «الرجعيين » أو العكس. وهذا التحديد يضع حدّا فاصلاً، على الصعيدين المفهومي والواقعي، بين الدولة والحكومة أو السلطة السياسية التي، رغم عموميتها، تنحاز إلى طبقة اجتماعية معينة وتخدم مصالحها وتعمم أفكارها وتصوراتها وقيمها، ومن ثم فإن الحكومة ذات طابع مزدوج: طبقي خاص ووطني عام، ولذلك تظل الدولة السياسية تناقضاً في ذاتها بين الخاص والعام. هذا التناقض الجدلي هو ما يفتح إمكانية تحولها إلى دولة ديمقراطية أو انتكاسها إلى شكل من أشكال الديكتاتورية، والتداول السلمي للسلطة، بطريق الانتخاب الحرّ والمباشر، مرّة تلو مرّة، هو الحل العملي لمثل هذا التعارض ولغيره من التعارضات الملازمة للمجتمعات البشرية. فقد آن الأوان أن تكف النزاعات المسلحة والحروب عن تسوية التعارضات الاجتماعية، والتناقضات السياسية، وآن الأوان أن يكف العنف السياسي الذي تمارسه الجماعات الإسلامية طريقاً للوصول إلى السلطة، وفرض نموذجها المجتمعي بالقوة. خامساً: الدولة الوطنية هي التجسيد الواقعي لدولة القانون. فالقانون هو روح الشعب، وهو ماهية الدولة، والتعبير الصريح عن الإرادة العامة والحرّية الموضوعية، وهو الذي يفرض سيادته على الحاكم والمحكوم في آن معاً. ومبدأ الدولة الوطنية (الجمهورية) والدولة الديمقراطية على السواء هو «الفضيلة السياسية» التي تتجلى في مبدأ المواطنة، فإذا ما فسد مبدأ الدولة تغدو أفضل القوانين سيئة. ولعل غياب مبدأ المواطنة في حياتنا السياسية يقبع في أساس فساد الدولة وتحولها إلى دولة شمولية استباحت المجتمع، وحلّت فيها الامتيازات محل الحقوق، وعلاقات التبعية والولاء الشخصي محل القانون. الدولة الوطنية التي ماهيتها القانون لا تنحل كلياً في الجهاز، أي في السلطة التنفيذية، ذلك أن انحلال الدولة في الجهاز، يعني تقوية السلطة التنفيذية بوصفها سلطة تشريع وتنفيذ وقضاء إزاء الشعب، وضعف الدولة إزاء الخارج، كما هو سائد في معظم الدول العربية، وفي هذه الحالة تفقد الدولة عموميتها، ويفقد القانون سيادته على الحاكم والمحكوم. سادسا: الدولة الوطنية الحقة هي التي تؤمن بإنجاز الوحدة القومية، سواء بين دولتين عربيتين أو أكثر. فلا تزال الوحدة العربية تعتبر أهم عناصر الثورة القومية الديمقراطية، لأن الإمبريالية العالمية مازالت قوية، وكانت قد خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم مما أصاب بريطانيا وفرنسا من إنهاك فإن الإمبريالية الأمريكية كانت ومازالت في عنفوانها، وإذا كان ضعف بريطانيا وفرنسا، وطموح الإمبريالية الأمريكية، يسمح باستقلال قطري جزئي، فإن عملية الاستقلال هذه، لم تكن تعني أن الوحدة الشاملة مقبولة، فقد كان ضرورياً للإمبريالية أن يبقى العالم العربي هامشاً تابعاً، وإن بصيغ جديدة. سابعًاً: الدولة الوطنية هي التي تعتبر أن من مهام بناء الديمقراطية أيضاً بناء اقتصاد وطني مستقل ومكتفٍ ذاتياً، وقادر على الثبات في وجه التحديات الاقتصادية الإقليمية والعالمية. وفي هذا السياق يبدو التمرد على تقسيم العمل الدولي مدخلاً ضرورياً للفكاك من شباك التبعية التي فرضها هذا النمط من التقسيم.